تطور التعليم .. وتحديات مجتمع المعرفة

لعل مدرسة أفلاطون، المعروفة "بالأكاديمية"، التي انطلقت في أثينا، في القرن الرابع قبل الميلاد، كانت أشهر بداية للتعليم المنتظم؛ لكنها ليست بالضرورة أول بداية لهذا التعليم. فأفلاطون ذاته تعلم على يدي سقراط من خلال الحوار وطرح التساؤلات ومحاولة الإجابة عنها. وقد حرصت الحضارات القديمة على التعليم بوسائل مختلفة، حيث ساعد ذلك على تراكم المعارف والمهارات والخبرات عبر الأجيال. وتذكر كتب التاريخ أن السومريين وكذلك المصريين القدماء منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، اهتموا بتعليم أبنائهم الكتابة، والحساب، والفلك، والبناء، والإدارة ضمن مدارسهم الدينية؛ وتذكر هذه الكتب أيضا أن حضارات الصين والهند أقامت مدارس في المنازل لتعليم أبنائها منذ القرن العاشر قبل الميلاد.
نجحت أكاديمية أفلاطون في استقطاب الراغبين في التعلم، بل إنها حفزت بعض هؤلاء على إنشاء ما يماثلها، وهذا ما فعله أرسطو تلميذ أفلاطون الذي أنشأ مدرسة خاصة به في أثينا أيضا هي "الليسيوم". وعلى غرار هاتين المدرستين أنشأت الدولة الرومانية القديمة مدارس كثيرة وركزت على ما عرف "بالعلوم السبعة: قواعد اللغة، والمنطق، والخطابة، والحساب، والفلك، والهندسة، والفنون". ولا غرابة بعد ذلك أنها تركت آثارا عمرانية مشهودا لها في البلاد التي حكمتها. وعلى مدى الزمن، أضيفت في أوروبا علوم أخرى إلى العلوم المدرسية السبعة بينها: الاقتصاد، والطب، والقانون، وعلوم الدين المسيحي، وغيرها.
وهكذا هيمنت مدارس الحضارة اليونانية على الدولة الرومانية وما حولها، وعلى أوروبا، على مدى مئات من السنين. وكانت الحضارة الإسلامية بعد القرن السابع للميلاد رافدا معرفيا كبيرا للحضارة الإنسانية، حيث انتشرت مدارسها جغرافيا من الهند وحتى الأندلس. اهتمت هذه المدارس "بالترجمة من العربية وإليها للتواصل الحضاري مع الآخرين، وبالرياضيات، والهندسة، والبناء، والفلك، والطب، والجغرافيا، والمجتمع، إضافة بالطبع إلى العلوم الإسلامية التي أضاءت الطريق". وبرزت من خلال ذلك أسماء كبيرة أنارت العالم بأسره مثل: الخوارزمي في الرياضيات، والرازي وابن سينا في الطب، وابن الهيثم في البصريات؛ والإدريسي في الجغرافيا، وغيرهم.
الجامعات، كما نعرفها اليوم، بدأت في أوروبا مع بدايات الألفية الثانية للميلاد. ويقال إن الجامعة الأولى في أوروبا كانت "جامعة بولونيا الإيطالية"، ثم ظهرت "جامعة باريس" في القرن الـ 12 للميلاد، وعلى غرارهما برزت جامعتا أكسفورد وكامبريدج في بريطانيا، وانتقل الأمر بعد ذلك إلى الأمريكتين الشمالية والجنوبية. وقد سبقت جامعتا "المكسيك وكولومبيا" في أمريكا اللاتينية كلا من جامعتي "هارفارد، ويل" في أمريكا الشمالية. وانتشرت الجامعات بعد ذلك، ولا تزال، ليس في أوروبا وأمريكا فقط، بل في مختلف أنحاء العالم.
وإلى جانب إنشاء الجامعات، شهد التعليم العام تطورا لافتا. فابتداء من القرن الـ 18 للميلاد اعتبرت ألمانيا أن هذا التعليم ضروري للجميع إناثا وذكورا، وأطلقت برامج للتعليم الإجباري؛ وقامت اليابان بمثل ذلك أيضا. واهتمت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة بوضع أنظمة للتعليم، وتحديد توجهات التعليم الإجباري الذي يجب أن يحصل عليه الجميع. وأفرز العمل في هذا المجال توافقا بين مختلف الدول على "نظام التعليم الذي يتكون من 12 سنة دراسية K-12"، إضافة إلى سنة الحضانة قبلها. وكانت غاية هذا النظام هي تأهيل الإنسان بما يحتاج إليه في حياته العامة. وقد اعتبرت الجامعات هذا التأهيل معيارا أساسا لدخولها، حيث لم يكن لها قبل ذلك معايير مطلوبة من الجميع.
يغلب على "نظام التعليم الاثني عشري K-12" الطابع التلقيني؛ وهذا الأمر غالب، ربما بدرجة أقل، في التعليم الجامعي. فالهدف المتعارف عليه هو التأهيل المعرفي، بمعنى نقل المعرفة من المدرس إلى الطالب. هناك من أجل ذلك منهج، وهناك غالبا كتاب يتضمن المعرفة المطلوبة في هذا المنهج، وهناك مدرس مؤهل في هذه المعرفة، ثم هناك زمن محدد لنقلها إلى الطالب وتأهيله فيها، والمعيار الرئيس لهذا التأهيل هو الامتحان الذي يجب أن تثبت نتائجه ذلك.
مجتمع المعرفة الذي نعيش فيه يحتاج إلى أكثر من مثل هذا التأهيل المعرفي، وهو يوفر في الجانب الآخر إمكانات معرفية لم تكن متاحة من قبل. ويشهد هذا المجتمع سباقا معرفيا متصاعدا، لا يكتفي بتأهيل الإنسان معرفيا فقط، بل يأمل في تأهيله "ابتكاريا" أيضا، بمعنى أن يحفِّز ويفعِّل فيه القدرة على توليد معرفة جديدة أو متجددة، والقدرة كذلك على توظيفها وعلى الاستفادة منها. المعرفة الجديدة والمتجددة هي المادة الخام لصناعة سلع جديدة أو متجددة، وتقديم خدمات جديدة أو متجددة، ووضع أساليب واستراتيجيات جديدة أو متجددة تتمتع بالكفاءة المطلوبة في مختلف الأعمال والنشاطات التي نقوم بها. لا يحتاج مجتمع المعرفة إلى إنسان يدرك ما في جعبة المعرفة فقط، بل إلى إنسان يستوعب ما في هذه الجعبة، ويستطيع أيضا إثراءها وإضافة المزيد إليها.
ولمجتمع المعرفة إلى جانب متطلباته الجديدة والمتجددة، وسائل ومعطيات جديدة ومتجددة أيضا يمنحها لأبناء هذا العصر. فتقنيات المعلومات والاتصالات التي أنجبت الإنترنت، والأنظمة المتصلة إليها، توفر المعلومات بالصوت والصورة والنصوص، وتعطي التعامل معها ومع مضمونها المعرفي مرونة متزايدة وغير مسبوقة. وتقدم هذه التقنيات والأنظمة وسائل تعليمية جديدة أو متجددة، وتسمح بالشراكة المعرفية بين الناس، وتحفز التنافس والإبداع والابتكار فيما بينهم. نحتاج ونحن ندخل عالم مجتمع المعرفة إلى "تعليم ابتكاري" لا يكتفي بالجانب التلقيني وتلقي المعرفة فقط، بل يحفز جانب التفكير وتوليد المعرفة أيضا؛ ولا يرضى بالمعرفة النظرية فقط، بل يسعى إلى المهارة في التعامل معها والاستفادة منها أيضا. ونحتاج في العمل على تحقيق ذلك إلى الاستفادة من جميع الوسائل والمعطيات التي يضعها هذا العصر بين أيدينا.
يواجه التعليم في عصر مجتمع المعرفة تحديات كثيرة، على رأسها تحدي التعليم الابتكاري، وتحدي الاستفادة في التعليم من الإمكانات التقنية المتوافرة ومعطياتها المتاحة. أمامنا تحدي موضوعات المعرفة الأكثر فائدة لنا، والتي نحتاج إلى التركيز عليها أكثر من غيرها. أمامنا تحدي المهارات العامة والخاصة التي نحتاج إليها. أمامنا تحدي المهن التي تحتاج إلى تأهيل تعددي في أكثر من مجال. أمامنا تحدي تطوير بيئة التعليم وتحفيز المعلم المبدع المسؤول عن مواجهة تحديات التعليم على جميع المستويات. وأمامنا أيضا أن نواجه كل ذلك بكفاءة وفاعلية، وأن نتوخى الحكمة في كل ما نقوم به.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي