تطورات في اقتصاد السلوك السياسي
يعتمد نجاح تحليل السياسات الاقتصادية في أي مجتمع على مدى فهم الحوافز خلف سلوك اللاعبين من مستهلكين ومنتجين، وعلى هذا قام التحليل الاقتصادي الجزئي. حسنا، ماذا بشأن فهم سلوك صانعي السياسات أي من يضعون القواعد والقرارات ليتبعها أولئك اللاعبون؟ لماذا كان ويكون السلوك السياسي كما نراه لا كما نحب أن نراه؟ تركزت محاولة الجواب عند المتخصصين في العلوم السياسية إلى عهد قريب نسبيا، لكن علم الاقتصاد حاول الإسهام في المحاولة منذ النصف الثاني من القرن الماضي.
ينظر الاقتصاديون وبصفة عامة إلى علم السياسة على أنه علم مقترض، أي أنه يستخدم طرقا منهجية مشتقة في علوم اجتماعية أخرى. بمعنى آخر، المتخصصون في علم السياسة يأتون في العادة أو في الغالب من خلفيات مثل علم الاجتماع أو علم النفس.
يلحظ قبل عشرات السنين أن منهجية على شاكلة ما في علم الاقتصاد حققت فائدة في فهم السلوك السياسي. عمل عدد من المتخصصين في علم السياسة ومتخصصين في علم الاقتصاد أحيانا بالتعاون فيما بينهم وأحيانا باستقلالية، عملوا على تطبيق أبحاث وفق منهجية اقتصادية تطبيقها على أسئلة سياسية، وتسمى عادة الاقتصاد السياسي. وهي تسمية تتفق مع تسمية قديمة لعلم الاقتصاد ترجع إلى القرن الثامن عشر، لكنها تختلف عنها منهجيا.
أعطى تطبيق منهجية البحث الاقتصادي على السلوك السياسي نتائج ليست موضع اتفاق بين أهل الاختصاص. وأسباب الخلاف كثيرة. أحدها يرجع إلى الطبيعة التطبيقية لعلم الاقتصاد على سلوك بعينه، وهو تطبيق يتسم إلى حد كبير بالتجريد أي تنظير يراه كثيرون مبالغا فيه. بمعنى آخر، يعترض كثير من علماء السياسة على تطبيق النظرية الاقتصادية بسبب طبيعة التجريد في النظرية، وهو تجريد يغفل بالضرورة بعض التفاصيل ما يقلل من الفائدة عند التطبيق على الواقع.
سبب آخر ربما كان أهم، معروف لدى أهل الاختصاص أن جزءا كبيرا من أبحاث الاقتصاد السياسي قامت على استخدام الافتراضات المعروفة في علم الاقتصاد لتطبيقها على اختيارات الفرد. تلك الافتراضات لا تجد قبولا قويا لدى علماء السياسة الذين حققوا تدريبهم من منهجيات مأخوذة من أو مطبقة في علم الاجتماع وعلم النفس.
لكن التوسع في المناحي السلوكية وحدوث تأثيرات أكبر في السببية التجريبية داخل علم الاقتصاد أدت إلى قبول نسبي وتأثيرات داخل الاقتصاد السياسي. بنيت نماذج سلوكية جديدة بغرض محاولة الإجابة على أسئلة قديمة تثار في العلوم السياسية، مثل فهم الامتناع عن التصويت وما يعتريه من تناقضات وغموض.
رغم ما تحقق داخل علوم أو بالأحرى علم السياسة أو حتى من دونه، أبحاث الاقتصاد السياسي أسهمت في إعطاء تركيز سلوكي. صانعو القرار والمسؤولون وكبار الموظفين في أي دولة يتعرضون للمؤثرات التي يتعرض لها الأفراد العاديون. حتى لو افترضنا أن القادة لديهم حصافة وحكمة أو بعد نظر أعلى من الغالبية، لكن لهم مصالحهم وطموحاتهم أيضا.
يرى كثيرون أن الاقتصاد السلوكي لم يعط فقط نصحا في السياسات، بل اقترح صياغات لتقييم السياسات، وركن أساسي في هذا التقييم التعلم ببطء. النماذج الاقتصادية التقليدية تفترض عقلانية المنتجين والمستهلكين، لكن الاقتصاد السياسي السلوكي بين أن التعلم يكون بطيئا، ومن ثم فرد الفعل بطيء أيضا. شيء من هذا يفسر البطء أحيانا في الإصلاحات، لأن فرضية العقلانية في الناس ليست بالقدر الذي كان يتوهم. جزء من التحليل الاقتصادي إعطاء تنبؤات مستقبلية القريبة خاصة، وقد لا تصدق التنبؤات، لكن الاقتصاد السياسي أسهم في تحسين تلك التنبؤات. ويرجع جزء كبير من هذا التحسن إلى بناء أفضل لأسئلة مسوحات تنبؤية عبر دمج النظرية الاقتصادية مع مبادئ علم النفس حين تصميم المسوحات. على سبيل المثال، تعطي النظرية الاقتصادية أهمية لدور إنفاق المستهلك وعرض العمل لفهم ظروف دورات الأعمال. يلحظ وفي كثير من الأحيان أن العائلات لديها معلومات أفضل حول الظروف مما لدى اقتصاديين. ومن ثم فينبغي أن يسهم علماء النفس في مساعدة الاقتصاديين على فهم أفضل لتوجهات العائلات.