الجامعات وتوجهات التعليم .. تحديات وآراء
طرحنا في مقال سابق رؤية الجامعات لمهماتها؛ وأوضحنا أن هناك توجهين متباعدين في هذا المجال، بينهما مدى واسع لتوجهات أخرى. وذكرنا، في التوجه الأول، أن بعض الجامعات الكبرى ترى أن للجامعات مهمات معرفية واسعة النطاق، يجب ألا تقتصر على التعليم والتدريب والخريجين، وعلى البحث العلمي ومخرجاته المعرفية، بل عليها أن تسهم أيضا في توظيف المعرفة والاستفادة منها، وأن تعمل على خدمة المجتمع وحل مشاكله في المجالات المختلفة، على كل من المستوى المحلي، والمستوى الوطني، ومستوى العالم بأسره. وبينا، في التوجه الآخر، أن هناك من يرى ضرورة تركيز الجامعات على التعليم فقط، بما يشمل تفعيل الوسائل الحديثة في خدمته، من أجل تقديم خريجين متميزين يخدمون المجتمع على أفضل وجه ممكن.
ولا شك أن كلا من التوجهين يستحق الاهتمام. فالمعرفة، بكل نشاطاتها وعطائها، خصوصا في هذا العصر، هي المحرك الرئيس للتنمية المستدامة والحياة الكريمة للإنسان أينما كان. وقد اهتم المقال السابق، بصورة أكبر، بالنظرة ذات النطاق الواسع، وسوف يهتم هذا المقال بالنظرة التي تركز على مسألة التعليم وما يرتبط بها، إضافة إلقاء الضوء على ما يجري بشأنها.
هناك قول نقدي طريف طرحه "ديفيد هيلفاند"، رئيس "جامعة كويستQuest University" الكندية الحديثة التي تركز على التعليم؛ وهو أستاذ متميز سابق في علم الفلك في جامعة كولومبيا الأمريكية الشهيرة. والقول موجه إلى الجامعات الخاصة المنتشرة حول العالم التي تهتم بصورة خاصة بالبحث العلمي والعطاء المعرفي، حيث يعطيها ذلك مكانة أكبر على مستوى العالم.
القول النقدي الطريف هو التالي: "الجامعات اليوم هي تجمع لمجموعات تشمل زبائن (يطلق عليهم لقب طلاب)، يريدون درجات مقابل ما يدفعون من نفقات؛ وتتضمن باحثين يتمتعون بأرصدة معرفية (يطلق عليهم لقب أعضاء هيئة تدريس) يسعون إلى الحد من عبئهم التدريسي لمصلحة عملهم البحثي؛ وتضم أيضا راعين يتحكمون في الجامعات ويسعون إلى التوسع (يطلق عليهم الإدارة الأكاديمية)".
جوهر النقد في قول "ديفيد هيلفاند" هو أن "التعليم مهمل في الجامعات"، فالطلاب يريدون الدرجات قبل التعلم؛ والأساتذة يتهربون من التدريس باتجاه البحث العلمي لأن الأنظمة تجعل مصلحتهم في ذلك؛ والإداريون يريدون المزيد من التوسع لأن في ذلك نجاح لمؤسساتهم. والفائدة بعد ذلك مصالح مجموعات، وليس تعليما يحتاج إليه المجتمع.
جاء القول السابق، في مقال نشرته مجلة "نيتشر" Nature يعلق فيه الكاتب على كتابين حول التعليم العالي، يطرحان بعضا من مشاكل العملية التعليمية. أول هذين الكتابين صدر عام 2010، وهو للأكاديمية "إلين شيركر Ellen Schrecker"، المتخصصة في التاريخ، وعنوانه "الروح المفقودة في التعليم العالي". وينتقد الكتاب تأثير توجهات بعض المتحكمين في التعليم العالي، ومموليه من أصحاب الأموال في القطاع الخاص، على حرية التعليم العالي والعاملين فيه، وبالذات في المجالات الإنسانية، ويعتبر الكتاب ذلك تحد غير مقبول للموضوعية المطلوبة في هذا التعليم.
أما الكتاب الثاني فقد صدر عام 2011، وهو للكاتبة "نعومي سكايفرNaomi Schaefer"، وعنوانه "استراحة عضو هيئة التدريس: لماذا لن تحصل على التعليم الذي أنفقت من أجله". وينتقد الكتاب قضيتين من قضايا التعليم الجامعي هما: زيادة تكاليف هذا التعليم على الطالب زيادة لا تتناسب مع زيادة دخل أسرته التي تنفق عليه؛ ونظام العبء التدريسي على أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الذي يجعل هذا العبء أمرا غير مرغوب فيه، لأن مقياس معايير تميز هؤلاء وترقيتهم تميل إلى صالح البحث العلمي، وليس إلى جانب الجهد التعليمي.
وهناك ثلاث تجارب عملية مهمة في التعليم الجامعي أخذت طريقها إلى الانتشار في السنوات الأخيرة سوف نطرحها فيما يلي بغرض التعرف عليها والاستفادة منها في المستقبل. وتشمل هذه التجارب: تجربة "جامعة كويست Quest University"؛ وتجربة "معهد كوريا المتقدم للعلوم والتقنية KAIST"؛ ثم تجربة "الدراسة المفتوحة عبر الإنترنت" التي تطرحها جامعات كثيرة حول العالم.
بدأت "جامعة كويست"، الواقعة في مقاطعة "كولومبيا" في كندا، عام 2007، وبلغ عدد طلابها في ذلك الحين "74"، لكنه يزيد اليوم عن "700". وتركز هذه الجامعة على نشاط معرفي واحد هو "التعليم". بل تطرح برنامجا تعليميا واحدا فقط، هو برنامج مدته أربع سنوات، تمنح لمن يجتازه درجة "البكالوريوس في الآداب والعلوم (BA&Sc)". ويهتم البرنامج بالموضوعات التي يحتاج إليها المجتمع؛ ويطرح مقررات تأسيسية إجبارية في أول سنتين من الدراسة؛ ثم مقررات اختيارية في السنتين التاليتين.
يبلغ الحد الأقصى لعدد الطلاب في الفصل الواحد "20 طالبا"، لكن المتوسط وصل إلى "16 طالبا" فقط. ويعطى كل مقرر بشكل يومي مركز ومتواصل حتى انتهائه، حيث يستغرق تقديم المقرر الواحد نحو ثلاثة إلى أربعة أسابيع. وتستخدم الأساليب الحديثة في التعليم، بما في ذلك النقاش والشراكة المعرفية، والمشاريع الفردية والمشتركة.
وننتقل إلى التعليم الذي يطرحه "معهد كوريا المتقدم للعلوم والتقنية KAIST"، وربما غيره من الجامعات أيضا. فهو يطرح محاضرات المقررات لطلابه عبر الإنترنت، ليمكن كلا منهم من مشاهدتها في أي وقت يشاء. وبعد ذلك، وفي مواعيد محددة، يلتقي الطلاب مدرس المقرر لمناقشة ما ورد في المحاضرات وطرح الآراء والأفكار بشأنها. ويعطي هذا الأسلوب العملية التعليمية كفاءة ومرونة أعلى في إلقاء المحاضرات من قبل المدرسين، وكذلك في تلقيها من قبل الطلاب؛ كما يقدم فاعلية أكبر من خلال جلسات الحوار والمناقشة التي تلي الاستيعاب الأولي للموضوعات المطروحة.
وفي إطار تجربة "الدراسة المفتوحة عبر الإنترنت"، تقوم جامعات كثيرة بطرح محاضرات لمقررات مختلفة على الإنترنت. وتقوم بإتاحتها، ليس فقط لطلابها، بل للجميع على مستوى العالم، وتسمح لمن يرغب في تسجيلها، والاختبار فيها عن بعد، في إطار ضوابط تقوم بتحديدها. ثم تعطي الناجحين شهادة باجتياز المقرر. ولا شك أن في هذا الأمر فرصة كبرى لنشر التعليم الجامعي حول العالم دون قيود على أبناء الدول الفقيرة أو المناطق النائية.
لا شك أن التعليم يستحق كل الاهتمام، واستخدام كل الأساليب والوسائل لتوفيره وتعزيز كفاءته ودعم فاعليته. لكنه لا بد أيضا من الاهتمام بجميع النشاطات المعرفية الأخرى في إطار يتكامل مع التعليم من أجل تفعيل التنمية اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا.