طاب التثني منه

يظل الوفاء هو الجزء المتمم للرحيل، الرحيل عن المنصب، أو الرحيل عن المكان، أو الرحيل الدائم عن النشأة الأولى، والمقام الأول، في سير الإنسان لربه، وخلوده في دار المقامة عنده.
في طمأنينة الذي أحسن عمله، وتكثف في ثمانين من عمره لين طبعه، ونقاء باطنه، وخفض جناحه، وانبساط حكمته، ككل الذين عاشوا شظف العيش، وقسوة شحه عليهم، تباعد عن بذخ المترفين، أوى إلى مستقر دافئ ومستودع، راكنا إلى طيب الجوار، وطيب الجيران، عن استبدال بيته المتواضع، الذي يتسع بقناعة الرضا له، ولكل الذين يشعرون أن قيمة كل مكان يحددها القائم فيه، يرفعها أو يضعها ساكنه، رب قصر اتسعت مساحته وتعالت جدرانه، والساكن فيه ميت يتحرك في ظلمة باطن، وموت قلب، وانطماس فطرة، وشح على كل سائل يطرق بابه، وترفع عن كل من لا ينتفع منه.
هذا الرجل الجليل الوقور الذي حفر من نعومة أظفاره الصخر، عاند فشله الذي تكرر، عاند الفقر الذي أنبته على كرم النفس، وإجلال نعمة الله إذ أقبلت، ورعاية الفقراء حين أسبغ الله من فضله في توالي الأيام وأنعم!
أعرف أنه في مرات كثيرة انكشف للحزن، وانكشف لمرارة خيبة المسعى، وانكشف لعدم تحقق المأمول، إلا أنه لم ينكشف يوما عن ثبات العزيمة، وثبات الإرادة، وحسن الظن بالله!
كان يقول لي إن جيله كان قدره أن يكون أطهر، وأقوى، وأقدر على النجاح من الأجيال التي تلته، لأن الفقر خير معلم، إن كان معه الصبر والحكمة والإرادة.
ــ وحين أسس شركة ناجحة وقوية، طلب منه بعض الأصدقاء أن يتقاعد مبكرا، وأن يقيم في واحدة من الدول ذات الطبيعة الساحرة وأن يترك العمل والجهد إلى أبنائه..! كان جوابه: إن أولادي يخدمون الآن وطنهم في أماكن متعددة، وجوانب شتى، وإني قادر على العطاء فيجب أن أمارس طاعة العطاء هذه، التي تحمل أرزاق الكثير من العباد. إن كل واحد منا يجب أن يحمل مسؤولية توظيف أكبر عدد ممكن من الناس. وأن يتحملهم وأن يعلمهم وأن يربيهم. وهكذا كان عدد من الموظفين طوى ثلاثة عقود بمعيته ويعمل بين يديه..!
ــ والغريب في هذا الشيخ الوقور، كثرة قراءته، واطلاعه، فلا يقل عن ثلاث صحف يومية يتابع مقالاتها متابعة حقيقية، ويقطع المقالات ذات القيمة العلمية، وأحيانا أجده قد أرسل لي صورة مقال مهم جدا، ثم إنه يناقش في مضمونه مناقشة الحريص على المعرفة والاستيعاب والشمول.
هذا الرحيل، وهذا الطي الجميل، لسيرة عطاء طيب، لرجل من خيرة رجالنا في المنطقة الشرقية، الذي أسس فرص عمل لمئات من الناس، والذي كفل العشرات من المعوزين طيلة عمره، والذي كان يفرض على كل من حوله مسؤولية ــ الفريضة الاجتماعية ــ الغائبة وهي ألا يعيش الإنسان لنفسه فقط. هو الشيخ محمد بن عمر البابطين ــ رحمه الله تعالى ــ الذي أيتم فقده مرة أخرى عشرات الأيتام والفقراء الذين تكفل بهم لسنوات ممتدة من الزمن، في صدقة سر أظهرها الله في الناس بعد موته، لنتعلم أن كل شيء لله يبقى، وكل رياء زبد يذهب ولا يبقى. تقبل الله فقيد الشرقية الكبير بقبول حسن، وجمعنا وإياه في مستقر رحمته إنه سميع مجيب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي