منظمة التجارة العالمية بين يديك الحلقة (32)
بحلول نهاية القرن السابع عشر أصبح يقين الدول يتضح بشكل جلي حول عدم جدوى تقييد التجارة العالمية، وتزايد إدراكها بفوائد التجارة الحرة عندما تحققت نجاحات تدريجية في الساحة السياسية الإنجليزية بشكل خاص، كما زاد تأثير الأغنياء على السياسات الحكومية، وأشاروا في معرض دعمهم المتواضع لصالح حرية التجارة، إلى مساوئ الاحتكار وما لحق بحرياتهم الشخصية من أضرار نتيجة للقيود التجارية وما سينتج عن التجارة الحرة من زيادة في أنشطة النقل البحري، غير أن أنصار حرية التجارة هؤلاء لم يؤيدوا انعدام العوائق أمام الواردات أو إلغاء إعانات الصادرات. والواقع أن تأييد الفكر الداعي للتجارة الحرة، التي تعرف بانعدام السياسات التجارية الحمائية والتميزية ضد السلع الأجنبية، ظهر بصور عديدة رداً على المذهب الميركنتلي Mercantilism، وأخذ عدد من المؤلفين، إلى جانب هنري باركر Henry Parker، يحاجون بأن أنشطة التجار دائماً تعود بالفائدة على الشعب وعلى المجتمع ككل .
وبنهاية القرن السابع عشر بدأ الاهتمام المشترك ينصب حول ما إذا كان ميزان المدفوعات Balance of Payment يشير فعلاً إلى ربحية التجارة وفائدتها. وقد لاحظ عدد متزايد من الكتاب والمؤلفين أن هناك مشكلات عديدة تفسد عملية جمع بيانات دقيقة حول الميزان التجاري، وأن المعلومات الخاصة بالصادرات والواردات التي تفتقر إلى الدقة قد تفضي إلى نتائج زائفة False Results حول الوضع الحقيقي للتجارة. ونتج عن ذلك تضاعف أعداد منتقدي المذهب الميركنتلي في فرنسا كما في إنجلترا، وبدأ رجال الأعمال والتجار ينادون بوجوب تحرير التجارة من التدخلات الحكومية تحريراً تاماً. وشهـدت فرنسا ظهور أفكار تنادي بالحرية الاقتصادية ونداءات لخصها القول المشهـور، دعه يعمـل ودعه يعبر Laissez-Faire et Laissez -Passer ، التي تأمر ضمناً بتحرير الإنتاج وتحرير التجارة. ومن أشهر أعضاء هذه المدرسة لاحقاً آدم سميث Adam Smith، وهو مصدر كل الثروات في المجتمع وإن التجارة ستؤدي إلى توزيع طبيعي لهذه المحاصيل، مما يميل بالتالي إلى رفع أسعار الحبوب وإفادة الزراعة في فرنسا. وقد ساد هذا المذهب في أوائل القرن الثامن عشر على أيدي الكتاب والفلاسفة في فرنسا. وعلى العكس من مذهب التجاريين Mercantalism الذي كان يقوم على أساس التدخل الحكومي، فإن مذهب الطبيعيين Naturalists كان يقوم على الحد من القوانين الوضعية وتمجيد القوانين الطبيعية. وقد جاء ذلك كرد فعل على النظام الإقطاعي الذي كان سائداً. ورأى أنصار مذهب الطبيعيين أن الإنسان ولد وله حقوقه الطبيعية كحق الحياة والحرية والملكية، وأن من الواجب النظر إلى الإنسان كفرد قبل النظر إليه كعضو في جماعة. لذا نادى هذا المذهب بوجوب عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي كي يتمتع الأفراد بحقوقهم الطبيعية. ذلك لأن التدخل عن طريق فرض القيود وتحديد القيود وتحديد الأجور والأسعار وغير ذلك من أشكال التدخل الاقتصادي يعد تجاوزاً لحدودها وافتئاتاً على حريات الأفراد.
الإيحاء الثاني والأهم استمده آدم سميث لاحقاً من الأدبيات الأخلاقية التي بدأها جزئياً توماس هوبز Thomas Hobbes في عام 1651م، حيث قرر أن المصلحة الذاتية هي التي تسيطر على عواطف الناس وهي في جوهرها روح هدامة وفوضوية. أما الناس الذين يحتكمون إلى العقل والمنطق فهم الذين يفوضون السلطة لدولة قوية يمكن أن تكبح جماح هذه الميول المؤذية من أجل الصالح العام. وفي مطلع القرن الثامن عشر تناول الفلاسفة سايكولوجية الحوافز لدى الإنسان وتساءلوا إن كان هناك من المشاعر ما ينبغي كبحها أو إطلاقها على عواهنها. ولكن هؤلاء لم يربطوا هذه التساؤلات دائماً بالسلوك الاقتصادي. أما الفيلسوف الذي جسر الهوة ما بين الفلسفة الأخلاقية والسلوك الاقتصادي وكانت له صلة مباشرة بآدم سميث بصفته أستاذه فكان فرانسيس هاتشنسن Francis Hutcheson الذي أكد أن المشاعر الطبيعية من أجل الآخرين تقدم لنا معنى أخلاقيا يحد من غلواء المصلحة الذاتية. وبهذا يكون هاتشنسن Hutcheson قد ربط ما بين فكرة الفضيلة التي تعود للقرن الثامن عشر، والنشاط الاقتصادي وأوجد قضية أساسية للغاية وقوية من أجل الحرية الاقتصادية، ولكنه فشل تماماً في توظيف هذا المنطق لصالح التجارة الحرة. وهذا يعني أن هناك عناصر معينة من هذا المذهب الميال لتأييد حرية التجارة سادت، وعلى نطاق أوسع، قبل قيام آدم سميث بنشر كتابه "ثروة الأمم The Wealth of Nations". وازدهرت المشاعر المؤيدة للتجارة الحرة على شكل مطالبات بالمزيد من الحرية في التجارة بين المفكرين في كل من فرنسا وبريطانيا، غير أن هذه الآراء لم تكن قائمة على أساس اقتصادي قوي، بل قامت أحياناً على عموميات غامضة لم تشمل سوى القليل من المحتوى الاقتصادي، وبالتالي كان من السهل استبعادها وتجاهلها، وحتى أولئك الذين حاججوا بأن المصالح الخاصة المعتدلة تشجع الرفاه العام فشلوا في التوصل إلى نتيجة مؤداها أن التجارة الحرة لها ما يبررها.
كان ظهور مذهب الطبيعيين وآراء الاقتصاديين في القرن الثامن عشر، وعلى رأسهم مؤسس علم الاقتصاد آدم سميث في انهيار مذهب التجاريين، وقد تأثر آدم سميث بهذه الآراء وأصدر كتابه الشهير "ثروة الأمم The Wealth of Nations" بمثابة الرد على ادعاءات التجاريين Mercantilists، فقد أوضح أن عظمة الدول وتقدمها لا يتوقفان على ما تملكه من معادن نفيسة بل على مقدار الناتج الكلي ودخلها القومي، وأن تحقيق فائض في الميزان التجاري سياسة لا يمكن استمرار تحقيقها. فمن غير الممكن أن تنجح كل الدول في تحقيق فائض في صادراتها على وارداتها لأن صادرات دولة ما إنما هي واردات دولة أخرى.
وقد ظهرت الشواهد أول ما ظهرت على تأييد آدم سميث للتجارة الحرة خلال النصف الأخير من القرن الثامن عشر، من خلال محاضراته في جامعة غلاسكو Glasco ، التي نأى بنفسه فيها تماماً عن مذهب التجاريين، وقد أكد سميث بثقة لا تتزعزع أن التجارة الحرة تسمح بأفضل توزيع لموارد المجتمع، وأن التعرفات الحمائية Protectionist Tariffs تتدخل بهذا التوزيع، مما يعمل بالتالي على خفض الدخل القومي.
شهد الربـع الأول من القرن التاسع عشـر فيضاً من المؤلفات والكـتابات حول الاقتصـاد، وخاصة التجارة، من حشد كبير من المفكرين الذين أصبحوا يعرفون بالاقتصاديين الكلاسيكيين Classical Economists . فهؤلاء طوروا من أفكار سميث بتفاصيل نظرية وعززوا قضية التجارة الحرة من خلال نظرية الميزة النسبية Comparative Advantage Theory . ولقد رسّخت تلك الفترة بعيداً عن الشكوك الفرضية القائلة إن التجارة الحرة تمكن الدولة من الحصول على كميات أكثر كثيراً من السلع مما كانت ستحصل عليها دون حرية التجارة. فقد ذكرت نظرية الميزة النسبية أن هناك من السلع ما يمكن أن يعود استيرادها من الخارج بالفوائد على بلد ما، حتى وإن كان إنتاج هذا البلد لها يحقق ميزة نسبية مطلقة لذاك البلد. ومن أبرز أعضاء هذه المدرسة ديفيد ريكاردو David Ricardo و جيمس ستيوارت ميل James Stewart Mill ، اللذان أيدا التجارة الحرة بكل قوة. وخلاصة القول إن جميع الرواد من علماء الاقتصاد في النصف الأول من القرن التاسع عشر أيدوا التجارة الحرة، ووقفوا صفاً واحداً ضد رسوم الاستيراد الحمائية Protectionist Import Duties.