رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


أزمة اليونان درس في عدم المساواة وليس الأخلاق

أزمتان تحتلان الغرب وصحافته هذه الأيام. الأولى صار لها زمن طويل وأخذت الكثير من النقاش والجهد. الأزمة الاقتصادية في اليونان أسبابها كثيرة ولكن أن تتحول إلى درس في الأخلاق فهذا لا أظن أنه يقبله أي عقل ذي حس سليم.
الأزمة الثانية هزت أمريكا وربما العالم بأسره وأظهرت البعد العنصري وثقافة الكراهية والسمو العرقي التي ما زالت قائمة في المجتمع الأمريكي. الهجوم الذي قام به أمريكي أبيض على كنيسة يرتادها السود (من الأصول الإفريقية) لا يجب أن يتحول إلى درس في الأخلاق. قتل تسعة مصلين من السود بدم بارد فقط لكونهم سودا دليل على أن ثقافة العنصرية وكراهية الآخر راسخة في بلد يقول إنه بيرق الحرية والديمقراطية في العالم.
وكون أن السود لا يزالون يرتادون كنائس خاصة بهم ولا سيما في جنوب أمريكا مؤشر على أن عصر العبودية والفصل العنصري وإن انتهى ظاهريا فهو لا يزال قائما في كثير من تفاصيله، وأن هذا الهجوم المروع قد لا يختلف كثيرا عن أحداث مرعبة أخرى في الشرق الأوسط حيث يفجر الناس أنفسهم في مجاميع المصلين في بيوت العبادة.
العنصرية والكراهية قائمة في المجتمع الأمريكي "المتمدن والمتحضر"، وهذا بشهادة دراسات أكاديمية رصينة ومقالات في أمهات الصحف الأمريكية وتصريحات وأقوال كبار مفكريها وسياسييها. بيد أن إخفاء شمس الكراهية والعنصرية بغربال "الأخلاق" أمر مثير للغرابة والاشمئزاز معا.
بدلا من الاعتراف أن المجتمع الأمريكي غارق حتى أذنيه في ثقافة كراهية الآخر المختلف لونا وميلا شأنه شأن المجتمع الشرق الأوسطي، حيث يحاول أصحاب السلطة والجاه والنظرة الأحادية للحياة جعلنا نعتقد أن الفعل الشنيع بقتل المصلين من السود لا يتعدى كونه مسألة شخص محدد انتهك "الأخلاق العامة" للمجتمع.
سأترك تفسير ظاهرة القتل وانتهاك حقوق الآخر المختلف من منطلق عنصري ومن وجهة نظر تفوّق وسمو فكر أو عرق أو دين أو مذهب محدد على ما لدى الآخر إلى رسالة قادمة أو عدة رسائل لإلقاء مزيد من الضوء عليها لأهميتها. سأركز اليوم على الأزمة المالية في اليونان وكيف أن مسحة من "الكراهية" وسمو وتفوق "البعض" في أوروبا على "البعض" الآخر الأوروبي ظهرا جليا في الخطاب الذي تناول هذه الأزمة.
في المناهج الدراسية في أوروبا يتلقى التلاميذ دروسا عن الحضارة اليونانية. في هذه الدروس يلقن الطلبة أن الغرب مدين للفكر والفلسفة اليونانية في أسلوب وطريقة حياته المتمثلة بالنظم المدنية والحضارية من تبادل السلطة والديمقراطية والحرية والانتخابات البرلمانية وحقوق الإنسان وغيره من الأخلاق الإنسانية السامية التي تنظر إلى الإنسان كقيمة عليا بغض النظر عن لونه ودينه ومذهبه وميوله.
وتدخل الناس معترك الحياة وهي مزودة ليس بالفكر الديني وكتبه ورجاله وكهنوته بل بالفكر والفلسفة اليونانية. الناس هنا تعرف عن الفكر والحضارة والفلسفة اليونانية أكثر بكثير مما تعرفه عن دينها وكتبها "المقدسة" ورجالاتها.
وببساطة هذا يعني أن الأخلاق التي يتباهى بها الغرب استمدها من الفكر والفلسفة اليونانية. وهل هناك مفكر وفيلسوف غربي لا يستند في نهجه على ما أتى به الإغريق (اليونانيون القدامى)؟
ولكن عند مناقشة الأزمة اليونانية الحالية وبعد اشتدادها تقرأ وتسمع تصريحات لساسة ومسؤولين ومؤسسات أوروبية تريد تلقين إغريق اليوم درسا في الأخلاق.
منهم من يصف اليونانيين وحكوماتهم بالجهلة والحمقى ويقول إنهم لا يفقهون في شؤون السياسة والإدارة والاقتصاد وإنهم أناس اتكاليون وكسالى "وسراق" – يتهربون من الضريبة – وأنهم أوقعوا أنفسهم في أزمة هم سببها لذا عليهم أن يطيعوا حرفيا كل ما تقوله "أوروبا" لهم ويتجرعوا "المر" أي الوصفة التي يقدمها لهم الأوروبيون الأذكياء والحكماء.
ينسى أصحاب الشأن في أوروبا ولا سيما ألمانيا – بيت مال الغرب وقوته الاقتصادية الضاربة – ومعها إنجلترا وفرنسا أن درس الأخلاق هذا قد ينطبق عليهم أيضا وأن أزمة اليونان ليست أزمة أخلاق بل أزمة عدم المساواة وطغيان رأس المال الذي هو جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي.
ينسى هؤلاء – الذين يقدمون دروسا "أخلاقية" للآخرين – أنهم كلهم في مركب واحد وإن رموا راكب في البحر كي يغرق فإن هذا لن ينقذهم ومركبهم من العاصفة.
هناك "عاصفة" تضرب الاقتصاديات الأوروبية أساسها الجشع الرأسمالي. ملايين وملايين العمال في ألمانيا ذاتها وفي فرنسا وإنجلترا وغيرها من الدول لم يحصلوا على أي زيادة في الدخل منذ نحو عقد من الزمن. لقد وضعهم أصحاب العمل أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الفصل من العمل واللحاق بفوج العاطلين أو الموافقة ليس على تجميد الأجور بل حتى أحيانا تخفيضها.
هناك تشكِّ عارم من السياسات الأوروبية بخصوص الأجور والضمان الاجتماعي والحقوق التقاعدية وغيرها، والمسألة ليست درسا في "الأخلاق" على اليونانيين تطبيقه بل مشكلة تركيبية تعانيها أغلب الاقتصاديات الغربية وليس اليونان وحسب. الأزمة في اليونان لا يمكن حصرها بحدود ذلك البلد، إنها أزمة تواجه الغرب برمته.
ولكن من السهولة إدانة وإلقاء اللوم على الضعيف الذي لا حول ولا قوة له بين أي مجموعة مهما كانت. غالبا ما نلقي اللوم على أضعف القوم ونحملهم وزر مشاكلنا وننسى أن السبب فيما نعانيه كبشر هم الأقوياء.
مع كل هذا هناك حسنة يجب ذكرها عند تناول الأزمتين اللتين أشرت إليهما في هذا المقال. الحسنة تكمن في الحرية التي تمنحها هذه المجتمعات لأعضائها في المناقشة وإبداء الرأي؛ حرية بدأت تفوق ما يمكن أن نتصوره ولا سيما بدخول وسائل التواصل الاجتماعي حلبة النقاش والإعلام والصحافة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي