إصلاح الخطاب الديني والثقافي
يبدو أن برنامج المناصحة الذي أشادت به كل المنظمات الدينية والسياسية المعتدلة في جميع دول العالم قد يتأثر سلبا وتقل فعاليته إذا لم نسرع ونجري إصلاحات واسعة في الخطاب الديني والثقافي.
إن التعليم الديني القائم سواء في المدارس أو المعاهد يحتاج إلى عمليات تقوية لمناعته ضد التفسيرات المغلوطة وضد التلميحات المراوغة والمفترية.
إن تسييل ونشر الإسلام الوسطي هو من أهم ركائز إصلاح الخطاب الديني الذي نعنيه، كما أن مبدأ "التعددية" من أهم القضايا التي يجب طرحها بأسلوب يقوم على قبول الآخر، ولفظ مبدأ الإقصاء، كذلك فإن مفهوم الجهاد يجب أن يعلم على صحيحه وسليمه بما يحقق المصلحة العليا للأمة.
ويجب أن نبدأ عمليات إصلاح الخطاب الديني من المقررات الدراسية، فالمقررات القائمة يسهل تحويرها واختراقها والتلاعب في مفرداتها، فمثلا الدعوة إلى الجهاد كمفتاح من مفاتيح دخول الجنة باتت معلومة مشوهة تسكن أفكار الشباب المغرر بهم.
وهذا هو المدخل الذي يدخل منه الانتهازيون الذين نجحوا في التغرير بأولادنا.. إلى درجة أن معظم المنتمين إلى "داعش"، وإلى حزب الله، وإلى زمر الحركات الدينية الإرهابية العميلة التي بدأت تنتشر هنا وهناك بأسماء تحمل شعارات دينية، ولكن في حقيقتها جماعات هدفها القتل وإثارة النعرات الطائفية، وتدمير مبادئ الدين الأقوم.
إن الكثير من المقررات الدينية تموج بالسطحية إلى درجة يمكن إدخال تفسيرات مغلوطة إليها بسهولة، والنتيجة إن مدارسنا ومعاهدنا تكاد تخرج سربا من المتدينين الذين يؤمنون بشعارات التطرف والتنطع والتزمت وارتكاب جرائم القتل والتفجير.
ولقد تلمس خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز هذه الحقيقة حينما قال، إننا في المملكة العربية السعودية نؤمن بالوسطية والاعتدال والتعددية والتنوع، ونعترف بأن هناك سنة وشيعة، وكل أطياف الشعب السعودي سواء بسواء أمام القانون، ولا فرق بين سني وشيعي، ولقد طرح الوسطية والتعددية كخيار مختار، وقال، إنه ضد الإقصاء، لأن الشعب السعودي جسد واحد في مملكة تطبق مبادئ العدالة والمساواة.
هذه المبادئ التي طرحها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في آخر بياناته الإعلامية يجب أن تكون نقطة الانطلاق إلى مشروع إصلاح الخطاب الديني بعيدا عن الإغواء، وبعيدا عن التعصب وإهدار وإنكار حقوق الآخر.
ويجب أن يكون للمجتمع دور مهم في أجندة الإصلاح ونشر الوعي الديني على مبادئ الوسطية والعدالة والمساواة بعيدا عن التزمت والمغالاة.
وإذا كان إصلاح الخطاب الديني يستلزم إجراء تعديلات على المقررات الدينية في دور التعليم، فإن البيت له دور لا يقل عن أهمية المقررات المدرسية، ونؤكد بأن التربية المنزلية تسبق التربية والتعليم المدرسي، ويجب على البيت أن يقوم بدوره في التربية، بعيدا عن العنصرية والتعصب وإقصاء الآخر، ومنازلنا مع الأسف تفوح بالدعوة إلى العنصرية والتعصب وازدراء الآخر، فدعوة الأهل إلى الابتعاد أو الاقتراب من الأصحاب والرفاق تقوم على أساس العصبية، وكان يجب أن تقوم على أساس الابتعاد أو الاقتراب من الأخلاق الحميدة والسلوك الأقوم.
دعونا نعترف بأن الخطاب الديني لم ينجح في استثمار طاقات الشباب ولم يطرح الحلول المناسبة لمشكلاتهم بل بالعكس عمق مشكلات الشباب النفسية والاجتماعية، كذلك لم يقدم للآخرين صورة الإسلام الحضارية المتميزة بقيم الانفتاح والتسامح.
لذلك يلزم أن يكون للمجتمع خطاب ديني وسطي معتدل وواضح ومعلن وفي متناول الجميع، ويعبر عن ثقافة المجتمع، والمسؤول عن تصميم هذا الخطاب الديني هي المؤسسة الدينية التي اكتفت مع الأسف بالاستنكار والشجب والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
لقد استغلت المنظمات الإرهابية كل العيوب التي ينضح بها خطابنا الديني واستغلوا النشء واستقطبوا الصغار، وكانت النتيجة أن حزب الله و"داعش" الإرهابيين نجحا في استقطاب هؤلاء الأطفال واليفع وضموهم بسهولة إلى كوادر قواتهم الباغية.
وإذا نظرنا إلى كل الأحداث وما يتفرع عنها، فإن الخطاب الديني في الداخل السعودي يحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر، فنظرية الاعتماد على المذهب الواحد يجب أن يعاد النظر فيها ولا بد من قبول التعددية المذهبية، لأن ديننا الإسلامي الحنيف يقبل بالتعددية، والله سبحانه وتعالى قال في محكم كتابه العزيز، "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". ولا يوجد أي مبرر للإصرار على المذهب الواحد لا سيما أن الشعب السعودي يتكون من أطياف وطوائف وملل مختلفة كما قال خادم الحرمين الشريفين، فإذا كانت الأغلبية من السنة، فإن في الشعب السعودي شيعة وفي الشيعة ملل ونحل تنتشر في مناطق مختلفة من المنطقة الشرقية وفي المنطقة الجنوبية، وبالتحديد في نجران وما حولها.
وإذا كان هذا هو حال المجتمع السعودي، فإن نشر ثقافة التسامح وقبول الآخر وعدم الإقصاء والاستبعاد واجبة النفاذ.
لقد ثبت من التجارب القائمة بأن المنظمات الإرهابية استغلت الفراغ والبطالة التي يعانيها الشباب ووفرت لهم المال والتدريب، ومكنتهم من عمل يقومون به حتى إذا كان هذا العمل هو حمل السلاح والعدوان على الآمنين المطمئنين.
إن إشكالية الخطاب الديني تتمثل في تناقض المنظرين والوعاظ وعدم تبني منهج الاعتدال، ولذلك أعود وأكرر أن واجب مؤسساتنا الدينية أن تضع برنامجا لها وتعلنه وتأخذ موافقة الناس عليه، ويجب أن يعبر هذا البرنامج عن الوسطية والتسامح وقبول كل الأطياف، ولا بد أن يتضمن البرنامج مطرحا واسعا للشباب مع الحرص على توفير الوظائف لهم حتى لا تستغل المنظمات المشبوهة والأشخاص المغرضون فراغاتهم، وغياب مؤسساتنا الدينية عن الشباب يعرضهم للاستقطاب ويعرض أمن المملكة للتطاول.
وللإعلام دور التوعية الرصينة الهادفة إلى توعية الناس بالنهج الوسطي وقبول الآخر بعيدا عن التزمت وقبول الآخر على نهج الوسطية والمساواة وعدم الاستفراد أو الإقصاء.