قبل نشر القوائم المالية للجهات غير الربحية
في خبر نشرته "الاقتصادية" مفاده أن وزارة الشؤون الاجتماعية تعكف على إعداد نظام مالي آلي للمعايير المحاسبية للجهات غير الهادفة للربح، وضبط مواردها، وإضفاء الصرامة على وسائل جمعها للأموال وصرفها، كما يقول الخبر إن الوزارة تدرس إمكانية إيداع القوائم المالية للجهات غير الهادفة للربح في نظام الإيداع الآلي للقوائم المالية "قوائم"، والاستفادة من تجربة الشركات التجارية في نشر الميزانيات في وسائل الإعلام. وهذا تقدم جيد بل جوهري في حوكمة الجهات غير الهادفة للربح، لكن الخبر يأخذ بعدا آخر عندما يتم اختصار الجهات غير الهادفة للربح إلى الجمعيات الخيرية فقط.
المحاسبة تهتم بثلاثة قطاعات وهي القطاع الهادف للربح والقطاع غير الهادف للربح والقطاع الحكومي، وفي أحيان كثيرة يتم اعتبار القطاع الحكومي قطاعا غير هادف للربح، والمحاسبة تفرق بين هذه الأنواع الثلاثة، نظرا لاختلاف مفاهيم الملكية والثروة التي تقتضي تنوعا واختلافا في المعالجات المحاسبية لها، كما أن القرارات التي يتخذها المستخدمون للقوائم المالية في هذه القطاعات تتنوع وتختلف فيما بينها، ولهذا فإنها تقتضي حزمة من المعايير المحاسبية التي تختلف في النهاية بين كل هذه القطاعات بل حتى بين مكونات كل قطاع. من المهم أن نعي هذه القضايا جيدا عند مناقشة القوائم المالية لأي من هذه القطاعات، ذلك لأننا في حاجة إلى قوائم مالية قابلة للمقارنة بين المنشآت الاقتصادية التي تعمل في كل قطاع، ولهذا فإن الحديث عن القوائم المالية للمنشآت غير الهادفة للربح يعني أن نتحدث عن قطاع كامل يشمل عديدا من المنشآت الاقتصادية المتنوعة الأغراض المختلفة ذاتها، فمثلا هناك المنشآت الرياضية بكل أنواعها التي تعتبر من الجهات غير الهادفة للربح، وبعض الجامعات الأهلية والمدارس وبعض الجمعيات الصحية كلها تمثل أنواعا من الجهات غير الهادفة للربح. بل إن هناك بعض الجهات غير الهادفة للربح لكنها تعمل وفقا للمعايير المحاسبة في المنشآت التي تسعى للربح، ومن ذلك عديد من المؤسسات الخيرية التي تعمل وفقا لمفاهيم ونظم الأوقاف.
وهكذا فعندما نتحدث عن قطاع الجهات غير الهادفة للربح فإن المسألة لا يمكن اختزالها في الجمعيات الخيرية فقط أو في مجرد معرفة وتحديد طرق جمع الأموال والتبرعات، بل إن ذلك القطاع يشمل عديدا من المنشآت، وقوائم مالية يجب أن يتم توحيد طرق العرض والإفصاح فيها حتى يتمكن متخذو القرارات من تخصيص الموارد على تلك الجهات القادرة على الاستخدام الأمثل لتلك الموارد، ولا يمكن أن نقفز إلى قضية إيداع القوائم المالية وإتاحتها إلى الجمهور دون أن نتمكن من تطوير مفهومنا عن القطاع غير الهادف للربح.
لقد بذلت الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين جهدا مشكورا في تطوير مجموعة من المعايير المحاسبية التي تهتم بإعداد القوائم المالية في الجهات غير الهادفة للربح، ومع ذلك فإن هذه المجموعة من المعايير لم تؤخذ حتى الآن بجدية من قبل معدي هذه القوائم أو حتى الجهات المشرفة عليها نظرا لمشكلات عدة من أهمها عدم النضج المحاسبي في معظم الجهات غير الهادفة للربح، ونتذكر ما حدث في بعض الأندية الرياضية من مشكلات محاسبية كبيرة تبين فيما بعد أنها تعود إلى عدم وجود نظام محاسبي كفء في ناد كبير وجماهيري. من يقف عن قرب في عديد من الجمعيات الخيرية يجد ضعفا واضحا في نظم المعلومات المحاسبية لديها، ضعفا يؤدي إلى ضعف واضح في الرقابة وعملية اتخاذ القرار. من المقلق جدا أن نعي كل هذه المشكلات ثم نقرأ خبرا عن لقاءات جمعت بين قيادات عليا في وزارتي الشؤون الاجتماعية والتجارة والصناعة، تتضمن تطوير عمل الجمعيات الخيرية والشركات غير الربحية، وذلك للمساهمة في توسع القطاع غير الربحي بشكل كبير، وتوجيه المستثمرين الاجتماعيين إلى المساهمة في إنشائها، خاصة فيما يتعلق بقضايا الصحة والتعليم والإسكان والترفيه. فالمشكلة إذا غير واضحة بعد لمتخذي القرارات لدينا خاصة في هاتين الوزارتين الكبيرتين، فالقضية الأساسية أن القطاع غير الهادف للربح لا يخضع اليوم إلى جهة بعينها تشرف على أدائه بل إنه ضائع بين عديد من الوزارات وهناك بعض الجهات غير الهادفة للربح ليس عليها إشراف من أي جهة ومن ذلك كثير من المساجد التي تتحصل على عديد من التبرعات ويطلب القائمون عليها عديدا من التبرعات من أجل تنفيذ بعض التوسعات أو الخدمات أو الرواتب دون أن تكون هناك رقابة مالية أو نظام محاسبي أو تدقيق مالي، وبعض هذه المساجد لها أوقاف ويشرف عليها.
إذا فقبل أن نتحدث عن قضايا مثل إيداع القوائم المالية يجب أن نحصر القطاع غير الهادف للربح في المملكة وأن نعمل على فهم واستيعاب عمقه الاقتصادي في البلد وتأثيره، ثم نحدد المرجعية له أو تقسم بين جهات بعينها تشرف على أدائه وتطوره، ومن ذلك فرض المعايير المحاسبية على منشآته وتوحيدها وفرض نظم للحوكمة متقدمة تضمن الشفافية والرقابة الجيدة، وفرض المراجعة بأنواعها الخارجية والداخلية. بعد ذلك يمكن أن تكون للقوائم المالية التي تنشر قيمة وللمعلومات فائدة عند متخذي القرار وبغير هذا فإن كل ما سنفعله هو نشر قوائم مالية مضللة.