سعود الفيصل .. عميد الدبلوماسيين
جرت العادة أن الوزير حينما يغادر الكرسي ويترك الحقيبة، تلاحقه اللعنات وكثير من عبارات التنديد والتقريع والدعوات التي لا يود الإنسان أن يسمعها في عزيز أو أثير.
ولكن الوضع بالنسبة للأمير سعود الفيصل وزير الخارجية الأسبق مختلف، مختلف تماما، فالناس رغم مرضه الواضح للجميع إلا أنهم ولفترة طويلة كانوا يريدون خبراته ويرتاحون لحكمته ويتمنون استمراره في قيادة دبلوماسية المملكة العربية السعودية.
سعود الفيصل ولد في 2 يناير 1940 وهو الابن الخامس للملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، وتولى وزارة الخارجية في عام 1975 وظل فيها نحو 40 عاما، وخلال العقود الأربعة قدم سعود الفيصل نفسه كموهبة وقيادة فريدة في علوم السياسة والدبلوماسية.
والواقع أن حب الناس لسعود الفيصل يبدأ من حب الناس لوالده الملك الباني فيصل بن عبدالعزيز، الذي أسس وزارة الخارجية في عام 1930، وكان الملك فيصل منذ ولاه والده زمام الأمور والمسؤولية صاحب مبادرات وإنجازات عسكرية وسياسية هائلة، فقد بدأ حياته العملية وهو لما يزل في السابعة عشرة، حينما قاد الحملة السعودية التي فتحت اليمن حتى بلغت الحديدة، ثم انسحب منها في إطار اتفاقية الطائف التي وقعتها المملكة العربية السعودية مع المملكة المتوكلية اليمنية في عام 1934، التى نصت على ترسيم الحدود الدولية بين البلدين وأرست دعائم العلاقات الودية بين البلدين الشقيقين.
وبعد ذلك قدم الملك فيصل لوطنه ومواطنيه سلسلة إنجازات ما زلنا نتفيأ ظلالها حتى اليوم، وأهمها التصريح الدبلوماسي العالمي البليغ الذي رد فيه على تهديدات وزير الخارجية الأمريكي كيسنجر، بمنع المواد الغذائية عن المملكة إذا استمر حظر البترول، فقال الملك -لا فض فوه- "إننا مستعدون للعودة إلى اللبن والتمر، أكل الآباء والأجداد".
وسعود الفيصل شرب وأكل الدبلوماسية من والده المعلم الأكبر الملك فيصل بن عبدالعزيز، صاحب نظرية الدبلوماسية الهادئة، فكان بمثابة هذا الشبل من ذلك الأسد.
ومن مدرسة الفيصل انطلق سعود الفيصل إلى مدرسة "القفلة الأخيرة"، أي الحل الأخير والحاسم، وفي كل الإنجازات التي حققها سعود الفيصل استحق عليها لقب "هذا الشبل من ذاك الأسد".
لقد شهدت منطقة الخليج والمنطقة العربية طوال نصف قرن كثيرا من الأحداث المرعبة، منها اندلاع الحروب مع إسرائيل، ثم الحرب الإيرانية العراقية حتى غزو العراق دولة الكويت، وأخيرا وليس آخرا ثورات "الربيع العربي" المشكوك في ربيعها، والمشكوك في عروبتها!
ومن حسن حظي أنني عملت في جامعة الدول العربية لسنوات طويلة، وكنت أحضر جلسات مجلس وزراء الخارجية العرب، وأحضر كثيرا من جلسات مجالس الوزراء في الإعلام والاقتصاد والعدل والأرصاد، وكنت أرى بنفسي أن وزراء الخارجية العرب كانوا ينتظرون من سعود الفيصل أن ينظر ويحلل المسائل، ثم يبدأ الوزراء في الاقتداء والسير على المنوال الممنهج الذي صممه معلم الدبلوماسية العربية الأمير سعود الفيصل.
وفي ذلك التاريخ الكل كان يقر بأن سعود الفيصل لم يكن وزيرا لخارجية المملكة العربية السعودية، بل كان وزيرا لوزراء الخارجية العرب، كان قائد الدبلوماسية العربية الذي يضع الخطوط العريضة للمشكلات الكبرى، أي كان سعود الفيصل يبتكر الحلول غير التقليدية ويطرحها للتصويت في المجلس الوزاري، وكلنا يدرك أن خريطة الطريق التي يطرحها سعود الفيصل دائما تحصل على الإجماع إلا من دولة أو اثنتين من الدول المعروفة بمواقفها النشاذ والخارجة دوما على الإجماع.
ولم يكن سعود الفيصل يتميز بتصميم المشاريع السياسية التي تحصل على الإجماع دوما، بل كان دوره الأهم هو قيامه بحماية الكيان، كيان الجامعة العربية التي وقّع على تأسيسها المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- حينما قام الملك فاروق بزيارته الشهيرة إلى المملكة في عام 1945 ووقع على قيام جامعة الدول العربية لتكون بيت العرب، وقلعة تحمي قضايا الأمة العربية، ومنارة يستظل بها جميع العرب.
ومن هذا المنطلق فإن سعود الفيصل يشعر بمسؤولية خاصة تجاه حماية كيان جامعة الدول العربية، باعتبار أن المملكة العربية السعودية هي إحدى الدول المؤسسة التي تحمل توقيع الملك عبدالعزيز مؤسس المملكة ومؤسس جامعة الدول العربية.
ولذلك في الأحداث التي كانت تتعرض فيها الجامعة للأزمات يستنجد أمين عام الجامعة بالأمير سعود الفيصل لإنقاذ الجامعة، وأذكر أنه في يوم من الأيام تعرضت الجامعة لأزمة مالية حادة، فقد تأخرت بعض الدول عن سداد أقساطها، بل عجزت بعض الدول عن دفع أقساطها، ولم يجد الأمين العام للجامعة مفرا إلا الاستفزاع والاستنجاد بالأمير سعود الفيصل، فعرض عليه الظروف المالية الصعبة التي تمر بها الجامعة، وكانت الاستجابة من قبل الأمير سعود الفيصل أسرع من "مسافة السكة".
وإذا طرحنا أخطر القضايا التي تعرض لها الخليج أو القضايا التي تعرضت لها الدول العربية طوال نصف قرن مضى، نجد أن فكر سعود الفيصل كان المحرك الأساس للحلول الناجعة، فحينما يتعرض الفلسطينيون للأزمات يسعون إلى سعود الفيصل فيقترح عليهم الحل البلسم ويحل كل المشكلات السياسية والمالية، وإذا تعرض العراق أو ليبيا أو سورية أو اليمن إلى صعوبات، يركضون إلى سعود الفيصل ليضع لهم الحلول ويرسم لهم خريطة الطريق التي تخرجهم من الأزمات بأسلوب علمي وعملي وعالمي، حتى المملكة العربية السعودية حينما احتاجت إلى غطاء عربي لـ "عاصفة الحزم" لجأت إلى الجامعة العربية وأخذت قرارها السياسي والعسكري الداعم.
هكذا كان عميد الدبلوماسيين العرب الأمير سعود الفيصل يتحرك كرمانة الميزان ليحل المشكلات والقضايا العربية العالقة.
والآن في غياب سعود الفيصل سواء عن مجلس التعاون الخليجي أو عن جامعة الدول العربية، فإن العرب يحتاجون إلى وقت طويل حتى يعثروا على "عراب" في حجم عميد الخبرات الدبلوماسية والسياسية الأمير سعود الفيصل.
وأخيرا أقول: إذا رحل سعود الفيصل رغما عن صحته إنما يرحل محفوفا بدعواتنا إلى الله -سبحانه وتعالى- أن يمتعه بموفور الصحة والعافية وطول العمر.