دور التغيير والاستمرارية .. في الأداء الجيد للإدارة المحلية
من أهم التكليفات التي يكلف بها الطالب الجامعي في الكليات النظرية في هذه الأيام.. هو تطبيق مدخل التغيير والاستمرارية في الدراسات التي تتناول دراسة الظواهر الاجتماعية.
ونحن إذا استعرضنا أنظمة الإدارة المحلية في المملكة العربية السعودية منذ بداياتها الأولى.. نلاحظ أن "التغيير" في نظم الإدارة المحلية هو الذي أدى إلى "الاستمرارية" بكفاءة في تنفيذ برامج التنمية الشاملة، وأن متغيري التغيير والاستمرارية يرتبطان بعلاقات واسعة مع مجمل المتغيرات التي تتشكل منها عناصر الإدارة المحلية في المملكة العربية السعودية.
بمعنى أن تغيير أنظمة الإدارة المحلية التي بلغت ستة أنظمة طوال ما ينوف على 66 عاما يعتبر معدلا مناسبا لتنشيط وتطوير دور الإدارة المحلية في التنمية الشاملة.
ولذلك فإن استخدام متغيري التغيير والاستمرارية ــ بما لهما من علاقات بمتغيرات واسعة في منظومة النظام السياسي ــ من المأمول أن يقودا إلى معرفة كثير من أسرار غرف صناعة القرار في الحكومات السعودية المتعاقبة.
وإذا عرفنا غرف صناعة القرار، فإننا سنتعرف على الأهداف الكبرى للدولة السعودية المتميزة بالرشد والنضج.
ولعل أهم ما يميز التحليل لأنظمة الإدارة المحلية عبر التغيير، والاستمرارية هو أنهما يؤديان إلى استدراج الأحداث واستنتاج مستمر لها، ما يزيد من إمكانات التفسير والتحليل، ويقود ــ بالتالي ــ إلى كثير من الأسباب والحيثيات التي تشكل فلسفة الحكم والإدارة في المملكة، بل يمكن معرفة المزيد عن مستقبل الإدارة المحلية في مملكة تتطلع إلى الاصطفاف ضمن أقوى 20 دولة في العالم.
ومن خلال استعراضنا تاريخ المملكة العربية السعودية الحديثة نلاحظ أن المملكة راهنت على أن تغيير وتطوير أنظمة الإدارة المحلية سيكون من أهم وسائل استمرار التنمية وتطوير المجتمع السعودي الحديث، ولا سيما أن المملكة تتجه ــ بجبهة عريضة ــ نحو تطوير شامل لمفاصل المجتمع في عصر جديد يعرف بعصر العولمة وتكنولوجيا المعلومات.
إن بداية تاريخ التنمية المحلية يبدأ في عام 1926 حينما أصدر المؤسس الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- "التعليمات الأساسية" التي وضعت الأساس الأول لنظم الإدارة المحلية.
وبعد عشر سنوات طورت حكومة المؤسس الملك عبدالعزيز التعليمات الأساسية وأصدرت نظام العاصمة والبلديات، ولكن هذا النظام ما لبث أن تغير بعد عامين إلى نظام الأمراء، حرصا من الدولة على أهمية التوسع في تنفيذ برامج التنمية والتحديث في كل أطراف المملكة دون التركيز على مناطق بعينها، وبالمناسبة فإن نظام الأمراء لا يشير ــ كما قد يبدو ــ إلى أمير المنطقة، ولكنه يشير إلى إمارة المنطقة من خلال أميرها.
إن الإدارة المحلية في المملكة العربية السعودية شهدت تطورا ملحوظا في عام 1963 بتغيير نظام الإدارة المحلية إلى نظام المقاطعات، ونظام المقاطعات عاد إلى استخدام مصطلح الجغرافيا وهو المقاطعات، ولكن مضامين هذا النظام سببت خلافا بين المقام السامي ومجلس الوزراء، ولذلك لم يكن النظام قادرا على الاستمرار وتنفيذ برامج التنمية في فترة من أدق الفترات التي كانت تمر بها المملكة، حيث إن هذه الفترة شهدت تدهورا في العلاقات العربية بعد حرب 1973.
ولذلك في عام 1977 تم تغيير نظام المقاطعات وصدر مكانه نظام البلديات والقرى، وهذا النظام لم يحط بكل المتطلبات المطلوبة، ولذلك أخفق في تنفيذ البرامج والمشاريع، ولذلك صدر في عام 1992 نظام المناطق، وهو نظام جديد عبر عن مضمون جديد للإدارة المحلية، وأبرز ما قدمه هذا النظام هو تشكيل مجالس المناطق التي باشرت بشكل فعال ومسؤول إقرار ومتابعة تنفيذ مزيد من برامج التنمية المستدامة.
ولكن منذ عام 1992 حتى الآن، دخلت المملكة في مراحل متقدمة جدا من التطور الذي لامس جميع أوجه الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لمجتمع المملكة، كذلك فإن تغييرات كبرى دخلت المحيط الدولي، حيث انتهت الحرب العالمية الباردة، ودخل المجتمع الدولي في القرن الحادي والعشرين الذي جاء بمستحقات عصر العولمة، ثم اندلعت ثورات الربيع العربية التي أعادت تشكيل المنطقة برمتها إلى كتل ذات أيديولوجيات مذهبية خطيرة على السلم والأمن الإقليميين.
أمام هذه التطورات الإقليمية والدولية، فإن نظام الإدارة المحلية السعودي يحتاج إلى تغيير جديد، ولعل تطبيق نظام الانتخاب في تكوين مجالس المناطق بدلا من التعيين كخطوة تسبق تشكيل مجلس الشورى على أساس الانتخاب بدلا من التعيين بات ضروريا في الوقت الراهن، الذي ينشد التغيير والتطوير بما يمليه الظرف الدقيق والظروف الأكثر دقة، وقبل ذلك ضرورة تفعيل دور المجالس البلدية، وإفساح المجال أمام المرأة كي تشارك بفاعلية في وضع برامج ومشاريع التنمية المحلية بعد أن كانت هذه المجالس أشبه بالجزر المنعزلة عن شرائح مهمة في المجتمع السعودي التي أصبحت لها مطالب وتطلعات يصعب تجاهلها، بل يجدر أن تضع الحكومة لها قواعد الحوار والمشاركة.
وفي ضوء دراسة تاريخ نظم الإدارة المحلية من خلال مدخل التغيير والاستمرارية، فإن الحقيقة الثابتة هي أن "التغيير" الموفق الذي أدخلته الحكومات السعودية على نظم الإدارة المحلية طوال مراحل تاريخها المتوثب جعل الدولة تستمر في أداء معدلات عالية في التنمية والتحديث، ولذلك فإن السعوديين ينتظرون من حكومتهم -التي عودتهم على التغيير باتجاه الأفضل- تغييراً مفصليا في نظام الإدارة المحلية الحالي، ولا سيما أن المجتمع السعودي جاهز لاستيعاب التغيير وممارسته بكل حنكة وكفاءة.