أثر «عاصفة الحزم» في الاقتصاد
لا أحد يريد الحرب- إذا استثنينا تاجرا يبحث عن ثروة، ورجلا يبحث عن منصب– ولقد نهى الله جل شأنه في كتابه الكريم عن الاعتداء، ونهى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن تمني الحرب أو لقاء العدو، لكن إذا لزم الأمر وشمرت الحرب عن ساقها فاثبتوا يا عباد الله. ذلك أن الله تعالى لم يأمر بالشر، لكن الإنسان الذي يضع الأمور في غير نصابها، ويضع المتضادات معا يتسبب في الشر، فالله خلق الأشياء كلها خيرا وصالحة في مواضعها التي خلقت فيها ولها. وأمر الناس ألا تتعامل مع مخلوقات الله إلا وفق ما خلقت له. لكن الإنسان الذي يضع مخلوقات الله في غير موضعها لا يستطيع أن يستفيد من خيرها الذي خلق فيها، بل يتسبب بسوء تصرفاته في الشر الذي ينتج دائما من سوء التعامل مع مخلوقات الله. ومع أن هذه جدلية ليس المقام محلها، إلا أن الحرب وفق هذا المعنى خير وشر، خير إذا جاءت للدفاع عن الحق وأهله وإزهاق الباطل وردعه، وشر إذا كانت للاعتداء ونصرة الباطل. ودول "عاصفة الحزم" تعمل على نصرة الحق وأهله في اليمن، وحماية حدود الأراضي المقدسة من أن تنتهك، وحتى لا يصبح طريق الحجاج مرتعا للصوص والمكوس وأهل الباطل، فهي خير وإن بدا للناس فيها قلق.
لعل البعض قلق من الأثر الاقتصادي للحرب في المملكة، ولهذا القلق ما يبرره حتما، فمن المتوقع أن تستخدم المملكة احتياطياتها النقدية لتمويل الحملة العسكرية، ومع وجود عجز في موازنة العام الحالي، فإن هذا سيستغرق جزءا كبيرا من الاحتياطيات، لعله أكبر من المتوقع. فالحكومة تريد أن تستمر "العاصفة" حتى تحقق أهدافها، ونظرا لأن الحوثي وعملاءه مجرد ميليشيات لا تمثل جيشا نظاميا، فإن إعادة الشرعية والحكومة النظامية في اليمن ستتطلب إعادة بناء الجيش اليمني القوي الذي يحمي الدولة ونظام الحكم الشرعي الذي ليست له ولاءات خارجية، وهذا سيستغرق وقتا ومالا بلا شك. في المقابل فإن الحكومة في المملكة ملتزمة أمام شعبها بتنفيذ خطط التنمية وتمويل الموازنة التي تعهدت بها والمشاريع الضخمة في الحرمين وفي كل شبر من المملكة، وها نحن نقترب من نصف العام المالي ولم تعلن الحكومة تخفيضات في ميزانية الجهات المختلفة، وهذا كله سيجد تمويله على حساب الاحتياطيات العامة. المملكة - ولله الحمد - لديها من الاحتياطيات مع إيرادات السنة المالية ما يمكنها من تجاوز هذه المرحلة دون الحاجة إلى الاقتراض، لكن لن يطول هذا الحال في توقعاتي، فالحكومة ستحتاج إلى الاقتراض إذا كانت مصرة على الاستمرار في دعم النمو الاقتصادي وعدم كبح جماحه، وفي السنوات المالية المقبلة وعلى افتراض أن أسعار النفط استمرت في التراجع، فإن المملكة لن تجد الكثير من الاحتياطيات بعد هذه "العاصفة"، وستحتاج حينئذ إلى تمويل جزء من موازنتها عن طريق الاقتراض. ولكن المملكة تمتلك ميزة التصنيف الائتماني المرتفع، وهذا سيحقق لها قدرة عالية على الاقتراض في المستقبل، على أن حجم هذا الاقتراض سيعتمد على حجم الميزانية والأموال التي تريد أن تضخها الحكومة في المشاريع، أتوقع أننا سنحتاج قليلا إلى ضبط الإنفاق في السنوات المقبلة. هنا قد تبدو "عاصفة الحزم" سلبية على الاقتصاد، لكن إذا نظرنا إلى الصورة من جانب آخر فسنرى الخير الذي فيها.
فالمملكة تريد أن تنوع من مصادر الدخل، وأن تجلب الاستثمارات الخارجية، وترفع من نسب النمو الاقتصادي، وبالتالي زيادة فرص الوظائف، لذا فإن الحرب التي تخوضها المملكة اليوم ضد العبث الحوثي مهمة، بل استثمارية "إذا جاز التعبير"، ذلك أننا ننفق احتياطياتنا اليوم كاستثمار من أجل ضمان قوة الاقتصاد السعودي في المستقبل وكذلك اليمني على حد سواء. فلقد كانت المسألة الحوثية تستنزف الاقتصادين (السعودي واليمني)، وتستنزف ميزانية الدولة في الحد الجنوبي من نواح عدة، ليس أقلها ما ينفق من أجل منع تهريب المخدرات والعمالة المخالفة لأنظمة العمل في المملكة والبحث عنها وترحيلها إن هي تسربت للداخل بسبب عبث الحوثي بالأمن والحدود (حيث اكتشفت أنفاق مع "عاصفة الحزم")، وهذه العمالة المتسربة تتسبب في إيجاد اقتصاد خفي خطير. فأي عمل عسكري لإيقاف هذا الهدر هو بلا شك نوع من الاستثمار طويل الأجل لجعل الحركة الاقتصادية بين الجانبين آمنة وعادلة لجميع الأطراف.
من جانب آخر، فإن المملكة لا ترضى بأن تكون تجارتها مع العالم معلقة بمضايق بحرية مهددة بالمخاطر كل يوم، هذا يرفع تكلفة التأمين كثيرا، ويرفع بالتالي من أسعار المنتجات سواء الصادرة من المملكة أو المقبلة إليها، فإذا كنا نصدر المنتجات فسنفقد قدرتنا على المنافسة؛ نظرا لارتفاع أسعار منتجاتنا بسبب ارتفاع تكلفة التأمين مع استمرار العبث الحوثي في مضيق باب المندب، وفي المقابل ستستمر الأسعار مرتفعة لدينا في الداخل للسبب نفسه، فأي تدخل عسكري لمنع عبث الحوثي في اليمن وخاصة عند مضيق باب المندب سيؤدي إلى استقرار الملاحة، وبالتالي انخفاض تكلفة النقل والتمويل، وتستمر قدرتنا على المنافسة العالمية قائمة، لذلك نحن بحاجة اقتصاديا إلى وجود حكومة عاقلة في اليمن وقوية ومتزنة يهمها مصالح شعبها ومصالح الشعوب الشقيقة لها، وليس مصالح وهيمنة دول مذهبية تدميرية تخريبية، بعيدة عن حسن الجوار وعمارة الأرض ورفاه الشعوب.
وفي طريقنا لإيجاد صناعة قوية لا تعتمد على النفط، فإن المملكة تعتبر سوقا واعدة للعمالة المدربة، ومهما بلغت قدرة المملكة على تأمين العمالة الوطنية فستظل هناك فجوة في العمالة اللازمة لتشغيل كامل الاقتصاد وخاصة في عدد من المهن المساعدة، وتاريخيا فإن اقتصاد المملكة كان دائما ولم يزل قادرا على إيجاد فرص عمل للعمالة اليمنية الفائضة التي لا يستطيع الاقتصاد اليمني استيعابها، فالعمل مع حكومة يمنية رشيدة سيحقق مصالح اقتصادية جمة للطرفين، لذا لا معنى للعبث الحوثي في اليمن، سوى أنه يضر عن قصد بمصالح الشعبين، وإيقافه ضرورة للنمو الاقتصادي في اليمن قبل المملكة. أضف إلى ذلك أن الاقتصادين السعودي واليمني من الاقتصادت التي يعتمد بعضها على بعض، فالعمالة اليمنية والمنتجات الزراعية كذلك تجد سوقها في المملكة، والمملكة تجد في اليمن حاجتها من العمالة، إضافة إلى تأمين المنافذ البحرية. فلا يمكن تصور أن تتعرض كل هذه المصالح للعبث وللتدهور بسبب خلافات مذهبية بحتة، وأن تصبح اليمن وشعبها أداة بيد دول أجنبية ليس لها أدنى مصالح في اليمن سوى إيجاد صراعات عبثية مجردة.
فالحرب بهذه الصورة- وإن بدت لنا شرا- تحمل الكثير من الخير الاقتصادي بعيد المدى للشعبين اليمني والسعودي، وهي خيار تم فرضه علينا فرضا، قال تعالى "فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ". فمحاربة الشر بالحرب خير قال تعالى (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).