رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


ثـوب الليـل

أولادنا الذين في مقتبل أعمارهم يتلاعبون في ديكور وجوههم بلحية "سكسوكة" أو سوالف محفوفة محددة وشنبات منمقة مرسومة أو مخففة كما لو كانت في طور النمو.. مثلما نراهم في قصات شعر الرأس بين الطويل والمنكوش والأفرو والكابوريا والسبايك، وغيرها، أو يعتمرون القبعات أو الأشمغة المنشاة مرة على طريقة الكوبرا ومرة كيفما اتفق. يما يميز الواحد منهم، أما الألبسة فلا تستقر على حال من قمصان تي شيرت الفضفاضة أو الطويلة مع البناطيل أو البارمودا حتى الثياب المغربية والعمانية.
أنا من جيل كان "غنجة" و"كشخته" بدأت بثوب الليل وثوب النهار ثم حصلت ثورة عارمة بظهور "البيجاما" والرواد منا في لبسها كانوا يمشون فيها بأزقة حارتهم خيلاء وتبخترا كما يحرصون على "نسف" فوطة على الكتف، ثابرنا على ذلك إلى أن جاءت الطفرة وانقلبت أحوالنا إلى هجين من خليط اللبس والمظاهر كل يغني على ليلاه!!
ثوب الليل كان ميراث تقليد آبائنا لم يولد برسم "الدلع" ولا "التحضر" لكنه كان وليد الضرورة وأزمنة الشح والعسر، فهو غالبا ثوب "سمط" أي قديم كاد أن يبلى فأحيل إلى التقاعد عن العمل نهارا إلى العمل ليلا، لأن ظلام الليل والأضواء الفاترة لشعلة "السراج" أو "الفنر" كفيلة بعدم فضح ما فيه من لطخ وخروق وبهتان في اللون وأية عيوب أخرى.
لعب "ثوب الليل" أدوار بطولة غرامية واجتماعية ونفسية كثيرة، وظل كاتم أسرار عشاق ورعين أو شباب طائشين، وقد حكى لي أكثر من صديق حادثة من النوع الميلودرامي (ضحك كالبكاء!!) لعب فيها "ثوب الليل" دور بطولة راح ضحيتها الشاب صاحبه.
كان ذلك الشاب الذي كان أنيسا يذكره زملاؤه بود وملاحة بينه واللغة الإنجليزية عداوة مستحكمة فلا هو يطيق معرفتها وهي تتمنع عليه وتستعصى على فهمه، غير أنه نجح من المرحلة الأولى المتوسطة بتدبير أموره ببركة وفزعة الربع بالهمس له في "زنقة" الامتحان بما يسر له الوصول إلى السنة الثانية حيث وقفت له فيها لغة شكسبير بالمرصاد فلم يوفق في إحراز درجة النجاح في امتحان نهاية العام، لكنه عبر إلى السنة الثالثة بتأشيرة "ناجح جوازا" التي كانت تعني السماح له بالانتقال للسنة الثالثة حتى لو كان "راسبا" شريطة أن ينجح من السنة الثالثة "وجوبا" أي يأتي بالدرجة المستحقة للنجاح بالضرورة.
في ليلة امتحان الإنجليزية لمرحلة الكفاءة طلب صاحبنا أن يكتب له أصحابه "براشيم" عن مواضيع الإنشاء في اللغة يتوقعون أن تأتي في الامتحان، لأن التمكن من كتابة موضوع الإنشاء كفيل بتحقيق درجة النجاح فيها، كتبوا له "رسالة" وموضوعا آخر عن "القمر" وضعهما في جيبه، وحين كان صباح الامتحان في القاعة راح صاحبنا يهمس لأصحابه: (ها.. صبيح؟!) قالوا له: (نعم) وتنهد زملاؤه مغتبطين له بتجاوز المحنة. لكن صاحبنا، بعد أن فتش في جيوبه بحثا عن برشام "صبيح" ـ وهو القمر بلغة بعض بلدات نجد خصوصا القصيم ـ عاد يجأر بلوعة: "سقطت .. سقطت.. الورق بثوب الليل!!) وغشي القاعة وجوم كظيم.. ضحك كالبكاء، وهكذا .. لم يفلح صاحبنا في تحقيق المعجزة، فقد وقف "ثوب الليل" حليفا لعينا إلى جانب لغة شكسبير.. تلك اللغة التي لم يكن صاحبنا يميز الوضع الصحيح للورقة المملوءة بكلماتها ـ رأسها من ساسها إلا بالبحث عن نقطة حرف (أ) لتهديه كي يضع الورقة أمامه في وضعها الصحيح (غير مقلوبة رأسا على عقب) .. وآه يا ثوب الليل كم كنت شاهد أزمنة وكم كنت بطلها وها قد أسلمت دورك لشهود وأبطال، لا هم يشبهونك ولا أنت تشبههم!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي