القرار القاتل .. يا نور
مهما كانت الظروف والأحداث، يظل الفراق، أصعب قرار يصدره أي إنسان في حياته. الأشياء بلا أرواح تسكننا ولا نستطيع لها وداعا، فما بالك بأرواح تسكن أرواحا. تقلبات مشاعر تحاصر الإنسان وهو يودع مكانا ما، يشعر أن قطعة من فؤاده ترفض أوامر قدميه في البعد، وتتمسك بالبقاء، يشعر أن سكينا تتسرب في دواخله تشق شيئا ما وترمي به في خزائن الماضي.
اعتزال كرة القدم، هو قرار فراق، كثير من النجوم لم يتمالكوا أنفسهم لحظته، وتدحرجت على وجناتهم كرات زجاجية لامعة، تحكي مشهد الفراق، بل إن كثيرين منهم لم يقووا على الفراق، وظلوا يقدمون قدما ويؤخرون أخرى، الفراق هو أن يموت شيء بداخلك وأنت حي تتنفس.
.. باولو مالديني أسطورة ميلان، استمر يلعب حتى الواحدة والأربعين، قضى 31 عاما من عمره بين صفوف الأسود والأحمر، حقق كل شيء يتمناه لاعب كرة، وحينما حانت ساعة الفراق، قال: “إنه اليوم الأكثر حزنا في حياتي، كل شيء هنا أشعر بأنه قطعة مني”. وقفت جماهير الإنتر الغريم التقليدي تحييه في آخر ديربي يلعبه، قال: إنها لحظة تاريخية، امتزجت فيها مشاعر الفخر بالحزن، لا أريد التفكير في الوداع وأن هذا آخر ديربي ألعبه”.
.. إنه الفراق، حشرجة في الصدر، تتخيل معها أن بعض أعضائك تريد أن تنطق، وأن الحدث يقتلها ببطء فتموت صامتة. الأسطورة السعودية ماجد عبد الله، الذي ظل طوال عمره الرياضي منتصبا صامتا، يدك حصون الدفاعات ويبتسم فقط، يخسر فيغادر الملعب بصمت، لا أحد كان يستطيع التفريق بين ماجد عندما يفوز وماجد عندما يخسر، رجل جبّار في السيطرة على انفعالاته، حينما حانت ساعة الوداع، لمع الماء بين جفنيه، حاول أن يكون ماجد الصامد، وكان لا بد من الاستعانة بمنديل أبيض وصوت لا نعرفه يقول: “لا أريد أن أودعكم”.
صعب.. صعب جدا وصف مشاعر الإنسان العادي عند الرحيل، لحظتها يختزل كل هذا العالم الفسيح، في موضع قدميه، فما بالك برحيل الأساطير، يا لألمه وقسوته ليس على المودع وحده، بل على كل حضور المشهد منذ ولادته وحتى إسدال الستار، وكذلك هو محمد نور، أسطورة الاتحاد، بل أسطورة جدة كلها، الرجل الذي يقدم قدما ويؤخر أخرى منذ عامين لا يستطيع أن يقول وداعا، ولا يستطيع أن ينطق بما يشعر، ونور حالة خاصة في الوداع، يشعر بألمين، ألم الرحيل، ومرارة الجحود، أتفهمه جيدا، وينطبق عليه قول الشاعر:
أزف الرحيل فهل أودع صامتا..؟
أم أنت مصغ للعتاب فأعتب..
.. منذ عامين، كان يمكن أن يودع نور كل شيء ويمنعه حب الاتحاد في قلبه، بل قلبه الذي يسكن بين جدران الأصفر المهاب، ولا يقوى. تماما كما كان الظاهرة رونالدو، أثقلته الإصابات، عاد واختفى وعاد وغاب يريد الاستمرار، وكان لا بد مما ليس منه بد، فألقى كلمته الشهيرة: “أريد مواصلة مشواري لكني غير قادر، أفكر بحركة ما لكني لا أتمكن من تنفيذها كما أريد، حان وقت الاعتزال”، عبارة تصف وضعه بدقه، بكى الصحافيون وهم يستمعون لرونالدو وهو يمسح دموعه ثم ختم: “ذهني يريد مواصلة اللعب لكن جسدي يقول لم يعد بإمكاني فعل ذلك”.
بين نور والاعتزال، قرار، ليس أي قرار، بل قرار قاتل، سيعاني الأسطورة كثيرا قبل أن ينطق به، ستحتبس دموعه كسكاكين تأكل شيئا داخله حتى يموت وصاحبه حي يتنفس.