الإرهاب «الرحيم» والإرهاب «الخبيث» وما بينهما
هل نسيء استخدام الشر وما يرافقه من خطاب "خبيث" لأغراضنا الخاصة؟ وإن كان ذلك ممكنا كيف لنا كبشر أن نفعل ذلك، أي أن نستغل الشر والإرهاب لتحقيق مصالحنا ومنافعنا؟
وما هو الخطاب "الخبيث" يا ترى؟ إنه كالشجرة الخبيثة أو بالأحرى أساس الشر لأن كل فعل أساسه الخطاب أولا. وهذا معناه أننا نفكر ومن ثم ننطق أو نكتب كلمات وتعابير وألفاظا للتعبير عما يدور في خوالجنا.
وكل لفظة أو نطق أو تعبير لنا ما هو إلا انعكاسا لواقعنا الاجتماعي. الخطاب يؤثر في الواقع الاجتماعي والواقع الاجتماعي يؤثر في الخطاب. العبارة التي نكتبها أو ننطقها كانت مفردة واحدة أو عدة مفردات، كانت جملة واحدة أو عدة جمل، كانت فقرة واحدة أو نصا مطولا، لا تأتي من فراغ أبدا.
ومتى يبدأ الشر؟ الشر يبدأ عندما أستخدم خطابا ألغي فيه الآخر المختلف عني، أي أنزع منه الامتياز والمكانة السامية التي أمنحها لنفسي استنادا إلى المحيط والبيئة والثقافة الدينية أو المذهبية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي أنا فيها.
هذه البيئة تخلق الواقع الاجتماعي ضمن ذاكرته التاريخية والثقافية والاجتماعية. والخطاب يعكس هذه الذاكرة ويدافع عنها ويزينها ويبرقعها وإن كانت هذه الذاكرة مثل القبر الذي يزركشه البعض ويبني صروحا حوله وينسون أن داخله عث ودود وبعض العظام.
وحتى "الشر" الذي قد يكون سببه واقعنا الاجتماعي أو وَقَعَ علينا من قبل الآخرين فإنه في الإمكان استغلاله خطابيا بشكل بشع ومريب. من ناحية نخفي من خلال خطابنا "الإرهاب" الذي فينا. من ناحية أخرى نستخدم "الشر" أو "الإرهاب" الواقع علينا خطابيا لدفع مصالحنا ومنافعنا إلى الأمام وتحقيق رغباتنا.
إن كان "الإرهاب" بعيدا عني ويحقق منافعي، فهو "رحيم"؛ بمعنى أنني أعزف عن منحه توصيفات خطابية سلبية أو "خبيثة". ولربما رأيت فيه الكثير من الحسنات.
لو كان "الإرهاب" موجها إلى واقع اجتماعي أرى فيه منافسا لي ومكبلا لحريتي، لربما رأيته "رحيما" وعزفت عن استخدام أي توصيف سلبي للتعبير عنه.
والتوصيف بالمعنى الخطابي يعني كيفية التعبير عن ظاهرة محددة من خلال اللغة أو أي رموز أخرى يستخدمها الإنسان كواسطة اتصال وتواصل مع واقعه الاجتماعي والواقع الاجتماعي للآخرين.
ومتى يظهر معدننا الأصلي كبشر ومتى يعبّر الخطاب تعبيرا صادقا عن هذا المعدن؟ عندما نقع في مصيبة أو مشكلة عويصة أو عندما نواجه ما نراه خطرا على واقعنا الاجتماعي بثقافته ودينه ومذهبه وأسلوب الحياة المعتادة فيه؛ عندها نبدأ بصياغة خطاب ظاهره الدفاع ولكن أساسه الهجوم لتبرئة صفنا واتهام الصف المقابل.
والقرب والبعد من واقعنا الاجتماعي غالبا ما يحدد طبيعة خطابنا إن كان "رحيما" أو "خبيثا".
ومن هنا نستخلص أن إطلاقنا تعابير مثل "الإرهاب" و"الشر" وكون أن حادثة أو مجموعة أو عملية "رحيمة" أو "خبيثة" غالبا ما يستند إلى نظرتنا إلى الدنيا، دنيانا أولا ودنيا الآخرين ثانيا وقلما إلى ما هيّة الحادثة أو المجموعة أو العملية "الإرهابية".
خذ مثلا نشرة أخبار من ثلاثة مواقع إعلامية متباينة التوجه والدنيا والواقع الاجتماعي لرأيت عجب العجاب عند تناولها لأمور حساسة لا سيما ما يطلق عليه "الإرهاب". ما يراه موقع "إرهابا" قد يكون "النضال من أجل الحرية" عند الآخر، وسيكون بإمكانك فرز التوصيفات اللغوية تباعا واستنادا إلى النظرة إلى "الإرهاب" إن كان "رحيما" أو"خبيثا".
وإن عقدت مقارنة طويلة المدى لحركة محددة لرأيت أن الحركة ذاتها التي كانت في الوسيلة الإعلامية نفسها توصف بـ "إرهابية" من خلال خطاب "خبيث" قبل عقد من الزمن أو قبل وقت قصير، صارت "رحيمة" وتستحق توصيفات خطابية منمقة وجميلة.
وقد تشبك شعرك على رأسك لو نظرت إلى "الإرهاب" من حيث الواجهة التي يقصدها. إن كان هدف الإرهاب ضْربَ ما أراه ذا منفعة لي أو قريب من واقعي الاجتماعي، فسأقذفه بكل تعبير "خبيث" في قاموسي. أما إن كان "الإرهاب" يضرب ما أراه عدوا لي أو معاكسا لتوجهي أو معرقلا لمصلحتي فلن أتورع عن إمطاره بخطاب "رحيم".
والوضع من الحساسية بمكان حيث إنني لا أود منح أمثلة محددة من واقع الشرق الأوسط مثلا أو العالمي بصورة عامة كي لا أثير الخوالج والعقل الباطن الذي ينتفض متى ما وضعناه أو واجهناه بواقع غير واقعه.
وعلى الرغم من أن "الإرهاب" صار مسألة حياة وموت وأصبح حديث الكل وعلى شفاه الكل وجزءا لا يتجزأ من الخطاب الإعلامي والكل تقريبا يقول إنه يحاربه ويمقته، لا أظن أننا سننجح في الاتفاق على تعريف محدد له. أي تعريف يجب أن يلبي القياسات والأنماط الخطابية أعلاه، بمعنى آخر كل واحد سيكون له تعريفه الخاص به.