لماذا يتذمر الأمريكيون كثيرا؟
كان بودي أن أعنون المقال كي أظهر التأثير الهائل الذي أحدثه كتاب "رأس المال في القرن الـ 21" لصاحبه "توماس بيكيتي". أظن أن قراء جريدتنا الغراء لا بد وأن كونوا فكرة ولو بسيطة عن هذا الإصدار الذي لا يزال يشغل الدنيا والناس في الغرب.
صدرهذا الكتاب بالفرنسية وسرعان ما تُرجم إلى الإنجليزية في الولايات المتحدة. والترجمة من الروعة بمكان حيث لا أظن بإمكان أي قارئ لغته الأم الإنجليزية اكتشاف أن النص مترجم لسلاسة الترجمة لو لم يكتب المترجم اسمه على الغلاف وبخط رفيع جدا تحت اسم المؤلف.
قلنا في الأسبوع الفائت إن هذا الكتاب الأكاديمي رغم ضخامة حجمه تربع على أكثر الكتب مبيعا في أمريكا في العام الماضي. ولكن ما هي شريحة القراء؟
لقد ظهر أن الذين قرأوا الكتاب ولا يزالون يشترونه بأعداد هائلة من أجل الاطلاع عليه سوادهم من الطبقة الوسطى في أمريكا. وظهر أيضا أن هؤلاء القراء يتشبثون بالكتاب لأنهم يرون فيه جوابا للكثير من المشاكل التي يعانونها ويتذمرون منها.
ولكن ما هي ومن هي الطبقة الوسطى في أمريكا؟
ليس هناك أي مؤشر ظاهر لتقسيم الشعب الأمريكي إلى طبقات. بيد أن هناك معايير مالية بحتة تقدمها الدوائر الإحصائية في هذا البلد بواسطتها نتمكن من تحديد من هو خارج هذه الطبقة.
الفقراء وعددهم يقدر بأكثر من 30 مليون شخص ليسوا ضمن الطبقة الوسطى. هؤلاء يعانون تقريبا كل شيء من ناحية المعيشة والصحة والتعليم وهم بالكاد يكسبون ما يكفي لدفع غائلة الجوع.
والأغنياء وعددهم ضئيل جدا ـــ 1 ـــ 3 في المائة من السكان البالغ عددهم 320 مليون ـــ هم أيضا خارج أقواس الطبقة الوسطى في أمريكا.
وبحساب بسيط يظهر أن غالبية الشعب الأمريكي ــــ أي أكثر من 250 مليون شخص ـــ يقعون ضمن مفهوم الطبقة الوسطى.
وتشير الإحصائيات أن معدل دخل كل أسرة من هذه الطبقة يراوح بين 50 و 55 ألف دولار في السنة. إذا لماذا يتذمر أفراد هذه الطبقة من الأمريكيين وهم يتقاضون دخلا بهذا المعدل العالي؟
معدل الدخل قد لا يعطي انطباعا كاملا عن الواقع الاجتماعي لأن الإحصائيات تقول إن الأسرة التي تتقاضى أكثر من 100 ألف دولار في السنة اليوم تعاني الكثير في تلبية متطلبات الحياة.
كل هذا والاقتصاد الأمريكي يعد اليوم من الاقتصاديات القليلة في العالم الصناعي التي فيها تباشير خير وازدهار وأخبار سارة متسارعة. إذا أين المشكلة؟
كتاب "بيكيتي" يؤشر إلى الخلل في الاقتصاد الرأسمالي وقراؤه من الطبقة الوسطى يرون فيه جوابا لمشاكلهم الكثيرة التي سنعرج عليها في نهاية المقال.
حسب "بيكيتي" المستفيد الأول من النظام الرأسمالي بشكله الحالي لا يتجاوز عددهم 1 في المائة من السكان. هؤلاء ثروتهم في ازدياد وضرائبهم في انخفاض. وفي أمريكا لا يقل معدل الأسرة الغنية جدا عن مليون دولار في السنة. هؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ولكن في السابق أي في أوج ازدهار النظام الرأسمالي في أمريكا، حيث كان بإمكان تقريبا كل من يسعى ويعمل بجد تحقيق "الحلم الأمريكي"، كانت كل الطبقة الوسطى لا خوف عليها في تلبية جميع متطلبات الحياة الراقية جدا لأن القوة الشرائية لمدخولاتها كانت تكفي وتزيد.
اليوم تغير الوضع تماما. لقد ركدت مدخولات هذه الطبقة وانخفضت قوتها الشرائية مقابل طفرة كبيرة جدا في مدخولات الطبقة الغنية.
والركود في مدخولات الطبقة الوسطى ليس بسبب الأزمة المالية التي ضربت العالم الرأسمالي في عام 2008. بعد كتاب "بيكيتي" أخذ الباحثون ومراكز الأبحاث والإحصاء يأخذون في عين الاعتبار عند القيام بدراساتها مديات طويلة.
وأظهرت إحدى الدراسات الرصينة أن ما يتقاضاه الناس في أمريكا عدا أصحاب الدخول المرتفعة جدا "الأغنياء" لم يطرأ عليه أي تغير إن أخذنا التضخم في عين الاعتبار في الـ 30 عاما الماضية.
والأنكى فإن أغلب العاملين في أمريكا لم يمنحوا زيادات سنوية في السنوات الأربع الماضية، بينما دخل الأغنياء ـــ 3 في المائة من السكان ـــ شهد نموا غير مسبوق في الفترة نفسها.
أقصى ما يتمناه الوالدان في أمريكا هو أن يعيشا في رفاهة ويكون بإمكانهما تغطية نفقات الدراسة الجامعية لأولادهم لأن أجور الدراسة الجامعية مرتفعة جدا.
اليوم لا تستطيع أغلب عائلات الطبقة الوسطى تغطية نفقات التعليم الجامعي لأولادها بيسر، ما يجبرها على الاقتراض من المصارف، بينما صارت الشهادة الجامعية تقريبا مفتاح العمل في هذا البلد لا بل أصبح الحصول على الشهادة بمثابة التصريح للدخول ضمن الطبقة الوسطى. ويبدو أن أفراد هذه الطبقة وجدوا ضالتهم في كتاب "بيكيتي"، حيث يقول لهم إن تذمرهم سيستمر ووضعهم سيزداد سوءا بتوسع الهوة بينهم وبين الأغنياء وكل المؤشرات الاقتصادية تدل على أن عدم المساواة في الدخول في تصاعد دون هوادة.