رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الإغاثة سلوك حضاري لأمة حضارية

مع موجة البرد القاسية التي مرت على المنطقة العربية خلال الأسابيع الماضية، ولا تزال، ومع ما أحدثته من استنفار لدى الناس المقتدرين، في كل المناطق التي ضربتها العاصفة الشتوية للاستزادة بالملابس، والبطانيات، وأجهزة التدفئة بكل أنواعها، إضافة إلى التزود بالأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية، كالأطعمة الدسمة، والحلويات، هذا الوضع حرك مشاعر الرحمة والشفقة والنخوة للإخوة السوريين الذين هجروا من منازلهم لا رغبة في حياة المنافي، والمخيمات بل اضطرارا تفاديا للقتل بكل أنواع الأسلحة التي أنتجها العقل البشري، وامتلكها نظام وحشي لا يجيد إلا لغة القتل، والبطش، وكل أساليب التعذيب.
المشاهد التي تنقلها الفضائيات من أرض الواقع، كشفت صعوبة العيش في مخيمات بسيطة لا تتوافر فيها أبسط مقومات الحياة تحت ظروف صعبة تصل درجة الحرارة إلى ما دون الصفر، خاصة مع نزول كميات ضخمة من الثلوج وافتقاد الآليات المناسبة لإزالته من على المخيمات والطرقات البدائية. ويكفي أن نعلم أن قسوة الظروف الطبيعية أودت بحياة الكثير وذلك لافتقاد وسائل التدفئة. قلوب رحيمة تحركت في بلادنا، وفي دول مجلس التعاون، وأوطان أخرى هبت لنجدة إخوتهم الذين حاصرتهم الغربة، والبرد القاتل، وقلة ذات اليد، ومن قدر له وزار أماكن جمع الإعانات فقد رأى مشهدا تكتمل فيه عناصر الأخوة، والرحمة التي تربى عليها أبناء وطننا العزيز، حيث رأى الفرد كل شرائح المجتمع من كبار وصغار، ومن نساء، ورجال دفعهم شعور الأخوة، والتربية الدينية، إضافة إلى إحساسهم الإنساني للمساهمة في حملة الخير كل بما يستطيع.
الشاحنات تقف في الساحات العامة، والناس فرادى، وجماعات يتوافدون على الأماكن المخصصة في أرجاء مدينة الرياض، منهم من يحمل التمر، ومنهم من يحمل الملابس، ومنهم من يحمل البطانيات، وآخر يحضر صناديق، وأكياس الأكل، هذا المشهد يثير في النفس سؤالا، ما الذي يدعو هؤلاء لفعل هذا الشيء لأناس لا يعرفونهم؟! لا شك أن تربيتهم الدينية التي غرست فيهم هي الباعث الأساس طمعا في الأجر، واستشعارا بواجب الأخوة الإسلامية، والعربية. مسؤولو الإغاثة، والعمال في حركة دائبة لتحريك الشاحنات أولا بأول حالما تجهز.
هذا السلوك ليس غريبا على أبناء هذا الوطن الذين ينتمون لخير أمة أخرجت للناس، حيث غرس الخير فيهم “الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة”، “ما نقص مال من صدقة بل تزده بل تزده”، “المؤمنون في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر”. في عهد الرسول قدم قوم من مضر إلى الرسول -صلى الله عليه و سلم- وصف جابر بن عبدالله ما بهم من ضر، وفقر مدقع، وبؤس حال بأنهم حفاة، عراة، في إشارة إلى تمزق، وتقطع ملابسهم، لكنهم مع هذا البؤس متقلدو السيوف لتأكيد استعدادهم لدخول الحرب، والدفاع عن الدين، والنفس في حال استدعى الأمر ذلك.
ولما رأى الرسول -صلى الله عليه و سلم - هذا الوضع البائس، وسوء الحال، أمر بلالا للأذان، ولما فرغ من الصلاة صعد المنبر، وقال، وبصيغة الفعل الماضي: “تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره”. وبهذا الفعل تسابق المسلمون لمساعدة القوم استجابة للحث غير المباشر حتى تشكل ما يشبه الجبلين من الطعام، والملابس. هذا التسلسل في ذكر ما بين الدينار، وحتى التمر يشير إلى أهمية الفزعة والتصدق كل بما يستطيع، فالغني يتصدق من دنانيره، والآخر من دراهمه، أو من الملابس، أما غيرهم من محدودي الدخل، فمن قوتهم برا كان، أو تمرا. هذه الصورة التي حدثت قبل أربعة عشر قرنا تتكرر في بلاد الحرمين الشريفين، وفي أوطان المسلمين كلما مس الضر فريقا من المسلمين، وغيرهم من البشر، نتيجة عوامل طبيعية كالزلازل، والبراكين، والأعاصير، أو لأسباب سياسية، كما يحدث في سورية، والعراق، وغيرهما من بلدان العالم التي مزقتها الحروب، والصراعات العرقية، والطائفية.
مجتمع ينهل من ثوابته وبتوجيه من دينه منذ أن بزغ الإسلام في دياره وانتشر في كل أرجاء العالم، حتى طال خيره كل محتاج، بغض النظر عن دينه وعرقه ومكان إقامته، إنها أمة متحضرة تتصرف وتسلك سلوكا حضاريا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي