بوتين يحقق نصرا دبلوماسيا في ميدان تصدير الغاز الروسي
يفترض أن يلتقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القادة الأوروبيين اليوم في اجتماع سيتطرق، من ضمن المسائل التي سيتناولها، إلى تأمين تزويد الدول الأعضاء في الاتحاد بالطاقة التي تحتاجها.
علامات الاستفهام تحيط بالقمة لأسباب تتعلق بالتحركات الروسية ونواياها الحقيقية فيما يختص بوضعيتها كمزود أساسي، إلى جانب ما يراه الكثيرون غيابا لخطة حقيقية من قبل الأوروبيين تجاه مختلف قضايا الطاقة ببعدها الجيوسياسي.
وفي خلفية اللقاء، إذا تم، الخطوة التي نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في القيام بها منتصف هذا الشهر بإقناع رئيسي كل من كازاخستان وتركمانستان إعطاء الأولوية للخيار الروسي في تصدير منتجاتهما من الغاز إلى الأسواق بدلا من الخيار الأوروبي الذي تدعمه الولايات المتحدة بقوة ويتجنب المرور بالأراضي الروسية، تأتي بعد شهرين من نصر دبلوماسي آخر سجله بوتين في سعيه إلى إعادة تأهيل بلاده لاعبا أساسيا على الساحة الدولية، وهي خطى تلعب فيها ثروات البلاد من النفط والغاز دور المحرك بخاصة مع تعاظم الدور الذي يلعبه جهاز الدولة وبالتالي تجيير هذه الإمكانيات لصالح الخيارات السياسية والاستراتيجية التي يراها الكرملين، وهذا ما يشكل أحد مخاوف الولايات المتحدة والدول الأوروبية عامة، وهي تعتمد على الإمدادات الروسية لتوفير نحو ربع احتياجاتها من الغاز في المتوسط إلى جانب أنها ثاني أكبر مزود لدول القارة باحتياجاتها من النفط.
الاتفاق الجديد يقضي ببناء خط أنابيب جديد وتحديث الشبكة القديمة في روسيا وعن هذا الطريق يمكن تصدير الغاز من كازاخستان وتركمانستان عبر روسيا إلى الأسواق الأوروبية، وهو في مرحلته الأولية حيث سيعكف الفنيين على البحث في التفاصيل بأمل التوقيع النهائي في الأول من أيلول (سبتمبر) المقبل، على أن يبدأ التنفيذ في النصف الثاني من العام المقبل. ومع أن التكلفة لم تعلن بعد إلا أن تقديرات سابقة نشرتها وكالة ”إنترفاكس "قبل ثلاث سنوات تشير إلى أنها قد تتجاوز المليار دولار.
وزير الطاقة الروسي فيكتور خريستينكو كان واضحا في الإعلان أن الاتفاقيات هذه تجعل من الخيار الذي دافعت الولايات المتحدة عنه بشدة باذلة الكثير من الجهد الدبلوماسي والاقتصادي لإنشاء خط مواز يتجنب الأراضي الروسية بلا معنى، قائلا بجلاء:" ابتداء من اليوم، فإن خط بحر قزوين العابر ناقلا الغاز لم يعد له وجود، فروسيا تقدم بديلا أرخص وأسلم وأكثر إغراء لدول وسط آسيا".
وفي واقع الأمر، فإن الخيار بين الحصول على أرباح من البيع مباشرة للدول الغربية مع المخاطرة بوجود حالة المتاعب السياسية والاقتصادية مع روسيا، أو البيع بأسعار متدنية لروسيا مع تأمين العلاقات معها، خصوصا أنها الأقرب جغرافيا واستراتيجيا، مع ملاحظة أن الدول الغربية لا تمتلك رؤية واضحة في التعامل مع روسيا في هذا الملف، وهو ما اتضح بصورة جلية في فشلها في الرد على التحركات التي قامت بها روسيا مرتين العام الماضي بوقف إمدادات الغاز عبر أوكرانيا فيما يبدو في ظاهره خلافا على السعر، لكن اضطر المستهلكون الأوروبيون إلى تحمل التبعات.
روسيا تعد صاحبة أكبر مخزون وأكبر احتياطي من الغاز يبلغ 1680 تريليون قدم مكعب، وفقا لأرقام إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، وهي بهذا المعدل تعادل الضعف مرتين ما لدى ثاني أكبر صاحبة مخزون من الغاز وهي إيران. كذلك تعد روسيا أكبر منتج، إذ يصل حجم إنتاجها السنوي من الغاز إلى 22.4 تريليون قدم مكعب، وكذلك أكبر مصدر له إذ يبلغ حجم صادراتها السنوية 7.1 تريليون حسب الأرقام الروسية الرسمية المتاحة حتى العام 2004. ويبدو أن الموقف لم يتغير كثيرا منذ ذلك الوقت، كما أن 90 في المائة من حجم الإنتاج يتم عن طريق شركة غازبروم، وبالتالي فهي مصدر أكبر جزء للعملات الصعبة التي تحصل عليها روسيا.
لكن "غازبروم" تعاني متاعب تتمثل في تراجع حجم إنتاجها، وبالتالي فهي بحاجة إلى التعويض عن ذلك لمقابلة احتياجاتها والتزاماتها تجاه عملاءها الأوروبيين خاصة، فالتراجع بنحو 700 مليار قدم مكعب في العام سيتطلب توفير 6100 مليار قدم مكعب من الإنتاج الجديد فقط للوفاء بمعدل الإنتاج الذي كان سائدا في 2005، لذا يمثل الاتجاه نحو تركمانستان خيارا عمليا، وإذا اكتمل هذا المشروع فسيقوم بنقل معظم صادرات تركمانستان التي ستمر عبر طريق روسيا.
الاتفاق الحالي يزود "غازبروم" الروسية بنحو 60 مليار متر مكعب من الغاز هذا العام ترتفع إلى 70 مليارا العام المقبل، والاتفاق مع رصيفتها "آشقابات" مستمر إلى عام 2028. ويعتقد أن تركمانستان تمتلك أكبر إنتاج من الغاز بعد روسيا بين دول الجمهوريات السوفياتية السابقة، على أن مشتريات روسيا من الغاز تقوم على أساس تسعير كل ألف متر مكعب بـ 100 دولار، بينما السعر السائد في دول الاتحاد الأوروبي يعادل ثلاثة أمثال ما تدفعه روسيا، وهذه هي النقطة التي تضرب عليها واشنطن في مسعاها لـ "دق إسفين" بين روسيا ودول بحر قزوين.
وهناك اتفاق ثان وقعه أيضا إسلام كريموف رئيس أوزبكستان الذي أوضح أنهم اتفقوا على ترقية وتطوير خطوط الأنابيب القديمة وزيادة حجم الصادرات من تلك المنطقة من 50 مليار متر مكعب إلى 90 مليارا، إلى جانب محتوى الاتفاق الذي يوجه ضربة إلى الجهود الغربية الهادفة إلى تقليل اعتمادها على رويا، فإن التوقيت شكل نقطة واضحة لصالح بوتين. فقبل هذا الاجتماع بيوم كان يفترض أن يقوم نور سلطان نزارباييف رئيس كازاخستان بزيارة إلى بولندا لحضور اجتماع مخصص لبحث قضايا الطاقة في بحر قزوين، لكنه أرسل نائب وزير الطاقة إلى هناك بينما اتجه هو إلى مدينة تركمنباشي في تركمانستان لحضور اللقاء الثلاثي مع بوتين ورصيفه جوربانجلي بيردمنخامنديف، مضيف اللقاء.
وقبل ذلك بشهرين في رزت أربعة تطورات أصابت المسؤولين في واشنطن بالقلق، وتتمثل بداية برئيس الوزراء المجري فيرينس جايرسانج، وهو قائد شيوعي سابق، أنه يؤيد خيار ترحيل الغاز إلى أوروبا عبر روسيا وتركيا ومروره تحت البحر الأسود، وهو ينطلق في تأييده من حقيقة أن الخيار الروسي سيكون عاملا في وقت أسرع من الخيارات الأخرى.
أما التطور الثاني فيتمثل في الاتفاق المبدئي الذي توصلت إليه روسيا مع اليونان وبلغاريا لإقامة خط أنابيب يطلق عليه بورجاس أليكساندو بوليس، الذي سيتجاوز مضيق البسفور بكل همومه الأمنية والبيئية، كما أن الشركات الروسية الأساسية: "غازبروم"، "روسنفط"، و"ترانسفط" ستسيطر على 51 في المائة من أسهم الخط المقترح، الأمر الذي يعطيها قوة تصويتية مسيطرة تتمكن عبرها من تحديد سياسات إدارة الخط. ويتوقع أن يبدأ العمل في هذا الخط العام المقبل ويستغرق فترة ثلاث سنوات.
كذلك أعلن في الأسبوع الأول من آذار (مارس) الماضي أن شركة لوك أويل ستندمج مع الشركة الحكومية "غازبروم". و"لوك أويل" كانت تتمتع بوضعية أنها أكبر شركة مستقلة في روسيا، كما أن لها وجودا في الولايات المتحدة عبر 1600 محطات وقود وشبكتها هناك تتوسع باستمرار، واندماجها مع "غازبروم" يعني من ناحية اضمحلال فرص استقلالية قطاع النفط وعدم وجود شريك حقيقي يمكن للشركات الغربية العمل معه وفق اقتصادات السوق، كما أن اندماجها في "غازبروم" تحديدا يعني خطوة أخرى على طريق استكمال هيمنة الكرملين على الصناعة النفطية بمختلف مجالاتها.
وأخيرا فإن الشهر نفسه شهد توضيح شركة "بي. بي" أو بريتيش بتروليوم سابقا، التي تحولت إلى اعتماد اسم "ما وراء البترول"، مستخدمة الحرفين الأولين نفسيهما كما كانت سابقا، أنها قد تبيع نصيبها في الشراكة مع تي. إن. كيه إلى شركة حكومية روسية، وكلها تطورات تصب في صالح روسيا.