وزارة الصحة والعدالة في الرواتب
وفقا لعدة تقارير صحافية فإن وزارة الصحة تشهد استقالات بعد تعيين وزير الصحة الجديد الدكتور محمد آل هيازع، وليست الاستقالات سبب هذا المقال؛ بل لأن موضوع هذه الاستقالات يستحق التأمل، فقد جاءت قرارات الاستقالة نتيجة اكتشاف الرواتب الكبيرة التي يتم تقاضيها. فبعض تلك الرواتب يتجاوز ثلاثة أضعاف راتب الوزير، ومنهم من وصل راتبه إلى 150 ألف ريال، إلى جانب الانتدابات والبدلات الأخرى، ومنهم من بلغ راتبه 140 ألف ريال، وآخر 130 ألفا، والثالث 100 ألف، والبقية رواتبهم ما بين 30 إلى 80 ألفا. والغريب أن أعمالهم لا تتجاوز صلاحيات مديري عموم ووكالات في وزارة الصحة. لكن المدهش حقا أن يمر هذا الموضوع بشكل عادي على الإعلام والنقاد وأصحاب الرأي، بل الشارع السعودي على وجه العموم. سكرتير يحصل على راتب 30 ألف ريال، ومدير عام في وزارة خدمية يتقاضى راتب 150 ألف ريال بخلاف البدلات الأخرى، وكل ذلك عن مهام تمثل خدمة عامة. كيف حصل هذا؟ وأنا واثق جدا - وديوان المراقبة يعرف ذلك - أن هذه الصور مكررة في وزارات وهيئات كثيرة، وسبق أن أشرت إليها في مقال سابق بعنوان "التفاوت في مستويات الرواتب في مؤسسات وهيئات عامة".
مهما كانت المبررات، فإن هناك مشكلة واضحة جدا، وهي - وببساطة متناهية - ليست لدينا فلسفة واضحة للرواتب والأجور في المملكة، ليس لدينا تفسير علمي لها، ولا أسباب تنوعها. لقد أهملنا التفسير الاقتصادي لسوق العمل سنوات طويلة، وهذا جزء بسيط جدا من نتائج ذلك الإهمال. قلتها مئات المرات وفي أكثر من مناسبة، لن تحل مشكلة سوق العمل والعمالة والتستر والرواتب بقرارات وأنظمة، بل من خلال تطوير فلسفة اقتصادية صحيحة للعمل والعمال والأجور تنبع من تفسير صحيح للاقتصاد السعودي. ما ثروة الأمة؟ كيف ننتجها؟ كيف نوزعها؟ من أسهم فيها؟ علينا أن نجيب عن هذه الأسئلة اقتصاديا وبمصداقية عالية، ثم نصوغ الأنظمة، فعندها ستحل كل هذه المشكلات تلقائيا. فلا يمكن أن يقبل عامل "مهما كان" أن ينتج الدخل والثروة ثم يحصل على فتاتها، بينما يحصل الكفيل الكسول على نصيب الأسد لمجرد أنه كتب في بطاقة التعريف الشخصية "سعودي". إذا استمر العمل هكذا، فإن التستر واقتصاد الظل سيظل قابعا في الاقتصاد مهما أصدرنا من أنظمة.
كيف نفسر اقتصاديا سبب حصول موظف حكومي في قطاع خدمي على راتب يختلف تماما عن راتب موظف آخر سابق له أو سيأتي بعده أو مماثل له في مؤسسة خدمية نظيرة؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نجيب عن سؤال أهم، وهو سبب اختلاف راتب أو أجر في مؤسسة تجارية خاصة. سأجيب عن السؤال الثاني أولا. فالرواتب هي العائد على قوة العمل، ويحصل العمال على عوائدهم من خلال استقطاعها من الدخل الناتج من قيمة بيع المنتجات التي أسهم العمال في صناعتها. ولذلك تتحدد قيمة العائد الخاص بالعمال "أي أجورهم" بأمرين معا، هما قيمة المنتجات التي أنتجتها المؤسسة، والثاني عدد العمال المتوافرين الذين أسهموا في الدخل بقوة العمل (ندرة العمال). فكلما استطاع العمال بمهاراتهم وابتكاراتهم إنتاج سلع ذات قيمة عالية، زاد دخل المؤسسة ومعها زادت عوائدهم، أما إذا أنتجوا منتجات عادية لها منافسون كثر، انخفض دخل المؤسسة، وبذلك تقل أجور العمال، ومن جانب آخر إذا كان هناك عدد كبير جدا من العمال الذين يقيمون بالعمل نفسه في السوق، فإنهم سيتنافسون للحصول على الوظيفة في المؤسسة، وسيفوز بها من يرضى براتب أقل وساعات عمل أطول. إذا اقتنعت بكل هذا فستفهم سبب كل هذه التشوهات في سوق العمل السعودي، وستتضح لك العلاقة المباشرة سهلة التفسير بين رواتب العمال أو الموظفين في القطاع الخاص، ودخل المؤسسات التي يعملون فيها. كلما كان الموظف قادرا على المساهمة بفعالية في زيادة دخل المؤسسة، كان ذلك ملموسا كلما ارتفع راتبه. لهذا نقبل أن نسمع بشركات تتنافس على المديرين والموظفين المميزين من خلال رفع رواتبهم حتى يصل قيمة العوائد الخاصة بهؤلاء النخبة إلى ملايين الريالات. لكن - مرة أخرى - كيف يمكن تفسير ارتفاع وتفاوت رواتب موظفي الخدمة المدنية الذين يعملون في الحكومة؟
الأصل أن الحكومات غير إنتاجية بل خدمية، وفي خدمات غير ذات عائد مثل الدفاع والأمن والتعليم وغيرها كثير. ولكي تقوم الحكومات بدفع أجور عمالها وموظفيها، فإنها تستقطع الضرائب من المؤسسات الخاصة، ذلك أن الأصل في الحكومات أنها لا تصنع ولا تنتج سلعا، بل دورها ينحصر في التنظيم، وتنفيذ تلك الأعمال التي لا يرغب القطاع الخاص في القيام بها، أو لا يجوز له أن يحتكرها. فمثلا إنشاء طريق بين قريتين نائيتين وإنشاء مدرسة هناك ومستوصف، وجميعها أعمال غير مربحة وليست ذات عائد، ولن يقوم القطاع الخاص بالاستثمار فيها، لذلك تأتي الدولة وتقوم بهذه المشاريع بدلا من القطاع الخاص. فمن أين تمول هذه المشاريع إذًا؟ إنها تمولها من إيرادات الضرائب التي تفرضها على القطاع الخاص "في العادة"، أو من امتيازات احتكار الحكومة للمواد الخام والأرض مثل إيرادات ضريبة النفط على شركات البترول في المملكة. وهكذا تبدو الصورة واضحة بالنسبة للعلاقة بين قوة العمل في الحكومة وإيراداتها، فلا علاقة بينهما نهائيا، "أو لنقل إنها غير مباشرة إلى حد بعيد". فالحكومة تحصل على إيراداتها سواء قام موظفوها بالعمل أم لم يقوموا به "إذا استثنينا موظفي الضرائب ولم نناقش حجم تلك الإيرادات". لهذا فإن المطلب الأساسي من الحكومات هو العدالة "وليست المساواة شرطا" في توزيع الرواتب بين جميع قطاعاتها، وألا يؤثر حجم هذه الرواتب في مستوى تقديم الخدمات الحكومية، وألا تتسبب هذه الرواتب في خلل في توزيع الثروة بين المواطنين. إذا كانت هذه هي الحال، فلماذا يأخذ موظفو وزارة الصحة وغيرهم هذه الرواتب الضخمة بطريقة غير عادلة وليس لها تفسير اقتصادي متين، كما أنه ليست هناك علاقة بين مستوى هذه الرواتب وإيرادات الدولة أو حتى مستوى الثروة على طول خريطة الاقتصاد.
إنني أؤيد وزير الصحة تماما في إعادة تشكيل خريطة الرواتب في الوزارة، وأن يعمم العدالة داخل الوزارة. بل أطالب بشدة هيئة مكافحة الفساد وديوان المراقبة العامة، بالعمل على تتبع مدى انتشار هذه الظاهرة، والأسباب التي تؤدي إليها، وأن تتم السيطرة على نموذج شركات الوزارات التي يبدو أنها تحولت من فكرة لتجاوز عقبات بيروقراطية التمويل إلى طريق للتوزيع غير العادل لثروة الأمة.