لماذا الفرضيات؟
تعليم وشرح النظريات الاقتصادية يبنى على فرضيات أو مسلمات منطقية في السلوك الاقتصادي للإنسان، كفرضية أن المستهلك يعظم (يكبر بضم الياء وتشديد الباء) منفعته، وكافتراض أن المنشأة تسعى إلى تعظيم أرباحها (تحقيق أعلى ربح).
واللجوء إلى الفرضيات ينطلق من قولهم "مكره أخاك لا بطل"، فالواقع الاقتصادي معقد جدا، ولا تمكن دراسته وتحليله كما هو، ومن ثم لا مناص من استخدام فرضيات تبسط الواقع.
مثال. عند تعليم طالب الابتدائي عمليات الجمع والطرح في المسائل الرياضية العملية، فإنه يعلم استنادا إلى تبسيط الواقع عبر فرضيات. مثال ذلك تعليم الطفل كيفية احتساب ربح تاجر. مثلا، اشترى تاجر كذا صندوق تفاح كل صندوق به كذا كيلو جراما، وباع الكيلو بكذا ريالا، فكم ربح التاجر؟
في حل السؤال، تم ضمنا وضع افتراضات كثيرة غير واقعية عند احتساب الربح، وأذكر منها ثلاثة: الأول: هناك افتراض أن الصناديق متطابقة الوزن 100 في المائة، وهذا افتراض غير واقعي. الثاني: يندر أن توجد حبات تفاح توفر وزنا متطابقا لا يزيد ولا ينقص شيئا، فواقعا هناك فروقات تبلغ عشرات الجرامات وربما أكثر مع كل عملية بيع، وقد تكون هذه الفروقات لصالح المشتري أو البائع. الثالث: هناك افتراض بأنه لا تالف، وهذا افتراض غير واقعي. ولن يفلح المعلم لو رغب تعليم الطالب في مثال واقعي خال من افتراضات.
مثال آخر. عند رسم كروكي للدلالة على مكان، فإن الراسم يبسط الواقع، إذ يتعذر رسمه كما هو، وكلما حاول الاقتراب من تصوير الواقع كما هو، كان الرسم أكثر تعقيدا، وقد يصبح الرسم متعذرا. والحقيقة أن المطلوب هو التبسيط دون إخلال بهدف تسهيل الدلالة على المكان.
هذه المشكلات موجودة في أمثلة بسيطة جدا، فكيف بتصوير واقع اقتصادي معقد جدا. المقصود أن عرض وتعليم نظريات الاقتصاد يكون بتبسيط الواقع بما يسهل الفهم.
وتوضع الفرضيات والنظرية في صيغة نموذج model، يمكن من إظهار السلوك الاقتصادي كعلاقة تربط بين متغيرات. وهناك طرق كثيرة لاختبار صحة أو جودة وقوة النظريات، أو النماذج، وأكثر ما تدرس هذه الطرق في علم الاقتصاد القياسي econometrics، وهو حقل من حقول التخصص داخل علم الاقتصاد، ويجب على كل طلاب علم الاقتصاد في مرحلة البكالوريوس دراسة ما لا يقل عن مقرر في الاقتصاد القياسي. أما طلاب الدراسات العليا فيجب أن يلموا إلماما جيدا بأساسيات الإحصاء والاقتصاد القياسي، وأن تتوافر فيهم المهارة العالية في التطبيق.
وليست كل الفرضيات موضع اتفاق بين الاقتصاديين، وبعض الأبحاث تضع فرضيات أكثر، وبعضها أقل، وبعضها يعدل في طبيعة الفرضيات، لسبب يبينه عاملو البحوث، وكل هذا معروف في علم الاقتصاد. ولكن هناك قلة من الفرضيات، التي عليها إجماع بين الاقتصاديين كفرضية أو افتراض أن المستهلك يعظم مصلحته.
وهذه المرونة في وضع الفرضيات تعطي مجالا لوجود تحليل اقتصادي نظري وتطبيقي يراعي خصوصيات بعينها. وقد تفرض الاختبارات القياسية عمل تعديلات في الفرضيات والبناء النظري، لمراعاة ظروف بعينها، سواء من منطلق ديني أو غير ديني، ولكن تبقى الدراسة أو التحليلات في إطار علم الاقتصاد. هذا المنهج قائم واقعا، فهناك طلبة غير مواطنين يحضرون رسائل علمية في كثير من أقسام الاقتصاد الغربية، على سبيل المثال، عن قضايا ومسائل اقتصادية لبلدانهم أو مجتمعاتهم، وهم يدخلون تعديلات واستدراكات في تحليلاتهم، بغرض أن تكون المعالجة مناسبة أكثر لأوضاع بلدانهم أو مجتمعاتهم. وعمل هذه التعديلات والاستدراكات محدود، ولا يتطلب عمقا فقهيا أو قانونيا.
والنصوص الشرعية من ناحية نظرية أو من حيث المبدأ إما أنها تؤيد الافتراضات وإما لا تؤيدها أو لم تتعرض لها بتأييد أو اعتراض. واقعا لا أعرف افتراضات مشهورة بين الاقتصاديين تعارض نصوصا صريحة، بل العكس هو الصحيح. فمثلا، أهم فرضية في نظرية الاستهلاك وهي حب الإنسان للمزيد من متاع الدنيا تؤيدها النصوص، كقوله صلى الله عليه وسلم "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا".