حين تنهار أسعار العقار
نشرت صحيفة "الاقتصادية" مقالا يوم الثلاثاء 25 المحرم 1436 للكاتب القدير عبدالحميد العمري ذكر فيه عدة عوامل تضغط على أسعار العقار واستنتج إمكانية تراجع أسعار العقار بنسبة 75 في المائة خلال العامين المقبلين. ومع احترامي لهذا الرأي إلا أني أرى أن تراجع العقار بشكل عام بهذه النسبة المرتفعة جدا أمر مستبعد ولا أعتقد أنه ممكن الحدوث في ظل الظروف الاعتيادية في أي بلد ولا يمكن أن يحدث إلا في ظل ظروف استثنائية كالحروب مثلا. ويجب التنويه هنا إلى أن حدوث انخفاض عام في أسعار العقار بهذه النسبة كارثة اقتصادية حقيقية بكل المقاييس، وليس شيئا نافعا للاقتصاد وإن كان الكثير من الناس يتمنون حدوثه ليتمكنوا من الشراء.
وهناك الكثير من الشواهد التاريخية على ذلك، فقد تسبب تراجع أسعار العقار في الولايات المتحدة بنسب راوحت ما بين 25-30 في المائة (وهي أقل بكثير من النسبة المذكورة في المقال) في إحداث الأزمة المالية العالمية في عام 2008، التي قادت إلى نتائج وخيمة على الاقتصاد العالمي بسبب الثقل النسبي والنوعي للاقتصاد الأمريكي، كما قادت إلى ركود اقتصادي كبير هو الأسوأ من نوعه منذ الكساد العظيم في الثلاثينيات من القرن الماضي. وقد قادت الأزمة العقارية في الولايات المتحدة والآثار الكارثية التي نتجت عنها إلى أزمة ديون حكومية عالمية ومستويات بطالة مرتفعة وكادت تعصف بالنظام المالي العالمي بسبب الترابط الكبير بين أسواق العقار في الولايات المتحدة والأسواق المالية العالمية. وفي بلد متقدم آخر تسبب تضخم أسعار العقار في اليابان خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي وتراجع أسعاره بنسبة كبيرة (ولكن أقل من ثلاثة أرباع) في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات إلى دفع الاقتصاد الياباني إلى المرور بفترات ركود وكساد أسعار متعددة. وما زالت اليابان تعاني آثار تراجع أسعار العقار وما زال اقتصادها الذي كان الكثير يتنبأ في أواخر القرن الماضي بأنه سيتجاوز الاقتصاد الأمريكي يترنح ويحاول الخروج من الركود المتكرر وكساد الأسعار لأكثر من 20 عاما.
صحيح أنه يمكن حدوث تراجع كبير في أسعار عقار بعض الأماكن والمناطق والمدن أو بعض المنتجات العقارية ولكن حدوثه بشكل عام في كل البلاد وفي سائر منتجات القطاع العقاري يقود إلى تراجع كبير في الثروة الوطنية. فالثروة العقارية تشكل الجزء الأكبر في ثروات الأوطان والأسر الغنية والمتوسطة الدخل وكثير من الأسر محدودة الدخل. ويعد المنزل أهم استثمار في المحافظ الاستثمارية (ثروات) للأسر المتوسطة ومحدودة الدخل، ولهذا يؤثر تراجع أسعار العقار بشكل كبير سلبا على ثروات ملاك المنازل من هذه الشرائح السكانية. وسترتفع معدلات الادخار والاقتراض من أجل الاستثمار في إنشاء وتملك العقار مع توقع تحسن الأسعار ما يدفع بمعدلات النمو الاقتصادي إلى أعلى، بينما ستتراجع معدلات الاستثمار مع توقع تراجع الأسعار وتتراجع معدلات النمو الاقتصادي. وتتشكل ثروات معظم الأسر متوسطة ومحدودة الدخل من الاستثمار في المساكن، ولهذا تشعر هذه الأسر بالغنى إذا ارتفعت أسعار مساكنها وتميل للإنفاق على السلع والخدمات بشكل أكبر مع ارتفاع قيم الثروات العقارية، وإذا تراجعت أسعار العقار فإن الأسر تميل للتحوط عند تراجع قيم ثرواتها وتحد من الإنفاق على السلع والخدمات ما يتسبب في تراجع النشاط الاقتصادي وتراجع التوظيف والدخول. كما تترابط الثروة العقارية مع كثير من المنتجات المالية ولهذا فإن تراجع أسعارها الحاد يهدد النظام المالي بالانهيار. ومع أن القروض العقارية الخاصة في القطاع المصرفي السعودي ليست في حجم نظيراتها في الدول المتقدمة إلا أن انهيار أسعار العقار بنسبة 75 في المائة يعني التخلف عن سداد الأغلبية العظمى من القروض والمنتجات المالية العقارية ما قد يؤدي إلى إفلاس الكثير من المصارف أو خسارتها لجزء كبير من رؤوس أموالها. وتمثل الثروة العقارية جزءا كبيرا من رؤوس أموال الشركات وخصوصا العقارية منها ما يعني إفلاس الكثير منها أو تراجع قيمها بشكل كبير، وهذا يهدد السوق المالية وقد يتسبب في انهيارات مالية. إن من المؤكد أن يقود أي تراجع كبير في أسعار العقار إلى إفلاس الكثير من الشركات والمجموعات العقارية التي اشترت بقيم مرتفعة وكلما زادت حدة تراجع الأسعار ازدادت حدة الخسائر والافلاسات.
ولا يمكن لأحد إنكار تسبب الارتفاع السريع في أسعار العقار في مصاعب جمة لكثير من الأسر، ولكن في المقابل فإن الانخفاض الحاد في أسعار القطاع العقاري ككل ستكون له آثار كارثية على معظم الأسر والاقتصاد ككل. ولهذا يتحمل صانعو القرارات مسؤوليات كبيرة في تخفيف آثار ارتفاع أسعار العقار على الأسر المحتاجة من خلال وضع السياسات والبرامج التي تساعد وتمكن هذه الأسر من تملك مساكنها، كما أن على متخذ القرار تبني السياسات الكفيلة بالحد من الآثار الكارثية لحدوث تراجع كبير في أسعار العقار بوجه عام. إن حدوث تصحيح في أسعار بعض المنتجات العقارية وخفض علاوات المضاربة أمر متوقع ويمكن للاقتصاد تحمله ولكن حدوث تراجع حاد في أسعار العقار بشكل عام وخصوصا المنازل ليس أمرا سارا كما يعتقد الكثيرون، بل هو معضلة مالية واقتصادية قد تتسبب في إعاقة نمو الدول وتقدمها لفترة طويلة من الزمن.