من منكم «يؤمِّرُ نفسَه»؟
.. الخوفُ واليأس والقلق من ألد أعداء أي إنسان. هل استطاع الإنسان عبر الحقب والعصور أن يتحدى هذا الشعور الذي يسيطر عليه ويستبد به؟ كل ما أصابته نكسةٌ وهو ماضٍ بدرب الحياة بدأ يشكو وكأن مشاكله محور الأرض، معتقدا أن الأرض تحته يجب أن تصير سهلة ممتدة، وإذا قام له مانعٌ أو حاجز أو سد، تخور قواه ومعها إرادته.
هما عنصران قويان يجعلان الإنسان يتفوق على مصاعبه، وتحضرني هنا قصتان حقيقيتان من التاريخ.
- القصة الأولى: "المؤمِّرُ نفسه"- عنصر الثقة.
تطلعتْ نفسُ "المثنى بن حارثة" للجهاد المفتوح، فقدم على الخليفة أبي بكر رضي الله عنه وقال له: "يا خليفة رسول الله، ابعثني على قومي فإن فيهم إسلاما، أقاتل بهم أهل فارس، وأكفيك أهل ناحيتي من العدو" - وبلاد قوم المثنى أطراف العراق-. وذهب بالفعل حولا كاملا يُغِيرُ بقومه على تخوم فارس. وسمّاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه " المؤمِّر نفسَه". أي أنه وضع نفسه أميراً على جيش. وهنا تجد أن المثنى الشاب يحمل قلباً من حديد، وهمة لا تهدأ وإيمانا راسخا، ويثق أنه يستطيع، والأهم أن هذه الثقة على قدرةٍ حقيقيةٍ وهمّةٍ صحيحة ونظرة واقعية، فوقعت في قلبي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. الثقة تأتي من قوة حقيقية وقدرة، أيا كانت هذه القدرة، ويتحمس لها صاحبها ولا يهملها فيستطيع أن ينقلها شعوريا لأكبر الناس ممارسة وتمرسا. ولكن الزهو بالنفس كمين لا يقع فيه إلا صاحبه وحده. أما ضعف الثقة وضعف المقدرة فهذا من يتخلف في حمأة طين التشكي واللوم فلا يفيد نفسَه فضلا عن نفع قومه وبلاده.
- القصة الثانية- "فيكتور هوجو" والحصى والبحر-عنصر التحايل على اليأس.
"فيكتور هوجو" الفرنسي صاحب رواية البؤساء كلكم تعرفونه، وربما لم تعرفوا هذه الحكاية عنه. في القرن التاسع عشر كان فيكتور هوجو محط فخر الأمة الفرنسية وشاعرها العظيم ومفكرها وفيلسوفها. بعدين زعلوا عليه ربعه، واتهموه أنه ضد الحكم، فنفي رمز الأمة إلى جزيرة اسمها "جيرسني". الذي حدث أنه رغم قساوة مرض شيخوخته، وهمه الكبير إلا أنه مضى يقرأ بحماسة ليس لها مثيل من قبل في أيام صباه وشبابه، وأبدع أجمل أعماله بتلك الجزيرة الموحشة التي لا يسكنها إلا عدة عائلات تشتغل بصيد الأسماك. يقول أحد من صاروا فيما بعد من كبار علماء النفس أخْذاً من هوجو، إنه كان صبيا يعيش في تلك الجزيرة، ورأى هوجو العجوز جالسا على كرسي متهالك بحدبته المميزة ويرمي أحجاراً في البحر. فسأله الصبي: "لماذا ترمي الحجارة في البحر سيدي؟" فرد عليه العجوز هوجو: "هذه ليست أحجارا يا صغيري، هل تراها أنت أحجارا؟ لا! إنها همومي ومشاكلي وقلقي وأحزاني وآلامي ومتاعبي، أرميها في البحر وأتخلص منها، ثم أعيش خفيفا سعيداً لأكمل المهمة التي قدّرها اللهُ لي على الأرض".
العنصران ليسا مستحيلين كما يبدو. هل نجرب؟