ما الذي ورثناه من «الأخوات السبع»؟
ربما أن الكثيرين من الجيل الحالي لم يسمعوا بـ "الأخوات السبع"، التي كانت لها صولات وجولات في عالم النفط، خلال العقود السبعة الأولى من القرن الماضي. كن سبع شركات، أمريكية وأوروبية، من الوزن الثقيل، تسيطر تقريبا على معظم منابع النفط حول العالم، بموجب عقود طويلة الأجل بينها وبين الحكومات المضيفة. وهي، دون ترتيب، ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا، ستاندرد أويل أوف نيوجرسي، ستاندرد أويل أوف نيويورك، برتش أويل، تكساكو، جولف أويل، ورويال دتش. وقد تغيرت بعض الأسماء اليوم عما كانت عليه في الماضي، وبعضها اندمج ليكون كيانا أكبر. والغريب أن الذي ابتدع اسم "الأخوات السبع" لم يكن "نفطيا"، بل كان عسكريا، وهو وزير الدفاع الإيطالي إنريكو ماتي. وكانت تلك الشركات تتصرف بالإنتاج والتسويق وتحديد مستوى الأسعار حسبما تمليه عليها مصالحها الخاصة، وليست مصالح الدول المضيفة ولا بمشاركتها. ولعل من نافلة القول أن نذكر، أن من أهداف تلك الشركات استنزاف أكبر كمية ممكنة من الحقول النفطية التي كانت تحت تصرفها، لأنها تعلم أنه سوف يأتي اليوم الذي تنتهي فيه عقودها أو يطلب منها المغادرة. ولم يخب ظنها، فقد اضطرت إلى التنازل عن زعامة الأسواق النفطية تحت وَطأة تنامي الوعي القومي للشعوب المضيفة مع بداية السبعينيات. ولم تكن تلك الشركات في ذلك الوقت تهتم بالحفاظ على كميات الغاز المصاحب الكبيرة التي كانت تذهب هدرا في محارق جماعية. وذلك لأن تجميع الغاز واستخدامه كوقود أو كلقيم للصناعات البتروكيماوية، أو حتى عامل ضغط للمكامن، كان بالنسبة لهم مكلفًا ومردوده الاقتصادي ضئيلا، مقارنة بما كانوا يجنونه من الأرباح الهائلة من الدخل النفطي الكبير. ومع مرور الوقت والتطور العلمي والوعي الاجتماعي الذي طرأ على الشعوب صاحبة الشأن واكتساب المهارات اللازمة لإدارة عمليات الإنتاج والنقل والتسويق، انتقلت ملكية معظم الموارد النفطية إلى حضانة الدول صاحبة الأرض. وفي أغلب الأحوال، كانت مرحلة الانتقال سلِسة وهادئة، حيث استمر العمل على ما كان عليه دون انقطاع أو توقف خلال زمن المفاوضات، كما كان عليه الحال في السعودية. وهنا بدأت مرحلة جديدة من العلاقات بين الدول المنتجة والدول المستهلكة. ولعل من باب التنويه أن نذكر أن أحفاد تلك الشركات لا يزالون شركاء في الصناعة النفطية، ولكن تأثيرهم ووزنهم أقل بكثير مما كانوا عليه في أوائل النصف الثاني من القرن الماضي.
وكان من المفترض أن تكون للدول المنتجة سياسة إنتاجية جديدة ومختلفة عن تلك التي كانت تمارسها الشركات الأجنبية، وتتلاءم مع متطلبات ومصالح شعوبها المستقبلية، خصوصا دول الخليج، ومن ضمنها عدم إغفال نصيب الأجيال المقبلة. ولكن ما حدث فعلا كان تطبيقًا كاملاً ودقيقًا لما كانت عليه الحال قبل نقل مسؤولية عمليات الإنتاج، أو التأميم في بعض الحالات. أي أن المنتِجين الجدد، الذين يمتلكون الثروة النفطية، تبنوا الطريقة نفسها التي كانت سائدة في العهد السابق، وهي إنتاج أكبر كمية بالإمكان الحصول عليها من مكامن النفط. وكأن الهدف هو نفسه، مع أن المصالح مختلفة. فالدول المنتِجة ليس عليها خوف من طرد أو استبدال وعليها واجبات جوهرية تجاه أجيالها المقبلة. ومن مصلحة شعوبها بقاء الثروة النفطية أطول وقت ممكن بصرف النظر عن الضغوط العالمية التي لا تراعي وضع وظروف الشعوب التي تعتمد في دخلها على مصدر واحد قابل للنضوب.
والذي يهمنا في هذا المقام، وضع دول الخليج العربي. فقد استمرت هذه الدول تستنزف ثرواتها النفطية بأكبر قدر ممكن، دون مراعاة لظروفها المستقبلية، وشعوبها تعيش على ظهر صحراء خالية من جميع مقومات الحياة. وكأنما هي ورثت ممارسات الشركات السبع وطبقتها بكل إتقان. وارتفع الدخل النفطي إلى مستويات قياسية، مع ارتفاع الأسعار ورفع كمية الإنتاج. وفاضت الدخول المالية عن متطلبات شعوبها. فاختاروا حياة الرفاهة على الكد والعمل، وتوجهوا صوب استقدام ملايين العمالة الأجنبية من أجل خدمتهم والقيام بالأعمال الإنشائية والحرفية. واختار معظم المواطنين العمل الحكومي والأعمال المكتبية المريحة. وغاب عن بالهم أن لشركات البترول الكبرى، أو "الأخوات السبع"، مطامع وأهدافا تختلف تمامًا عن أهدافنا ورؤيتنا ومسؤوليتنا تجاه شعوبنا وأجيالنا المقبلة. فنحن، الجيل الحاضر، مطلوب منا إعداد أجيال تعمل وتنتِج من أجل المستقبل. وهذا من غير الممكن تحقيقه إذا نحن فتحنا صنابير الآبار النفطية على أوسع نطاق وأسرفنا في الإنتاج، دون مراعاة لتدهور الحقول وارتفاع تكلفة الإنتاج. والنتيجة، غير المحمودة، ارتفاع مستوى الدخل، عاما بعد عام، وتضخم دخل ميزانية الدولة، الذي بدوره أوجد سيولة نقدية كبيرة عند الكثيرين. فصار همهم البحث عن مزيد من حياة الرفاهة، ونحن ليس لدينا اعتراض على ذلك لولا أن ما نمارسه اليوم سوف يضر بمستقبل أحفادنا وأجيالنا. فلا بد من أن توجه لهذا المسار سياسات في اتجاه الترشيد.