أسباب تعثر كليات الأعمال
تعد كليات الأعمال من الكليات النوعية على مستوى العالم، فهي المؤسسات الأكاديمية المعنية بتخريج وتدريب المديرين التنفيذيين وتثقيف أرباب العمل وإعداد الباحثين في شتى فروع المعرفة الإدارية من تسويق ومحاسبة وموارد بشرية وغيرها. وهي المؤسسات التي أخرجت لنا نماذج الجودة الشاملة ونظريات الحوكمة وإعادة الهندسة والطريقة المثلي للحصول على مصادر الأموال. وكليات الأعمال لا تقتصر على الوظائف التقليدية للمؤسسات الأكاديمية من تدريس وبحث، بل نراها تصل إلى أبعد من ذلك، فهي المؤسسات المخولة بإعداد البرامج التدريبية في مجال التنمية الإدارية والاستراتيجية وإعداد القادة. وهي المؤسسات التي تقود مسيرة المال والأعمال في الدول، وتتولى بناء وتطبيق النظريات والنماذج في مجال المنافسة والسوق والعلامة التجارية وأدوات ترويج المنتجات.
وقد تمت الإفادة منها في الاقتصادات التي تتبنى الرأسمالية المطلقة كالولايات المتحدة وكندا واليابان، كما نهضت أمم ناشئة وصلت إلى الرفاهية الاقتصادية في فترة وجيزة، وانهارت أخرى غفلت عنها ولم تدرك فائدتها. وفي بلادنا هناك فهم وإدراك لأهمية دور كليات الأعمال فقامت وزارة التعليم العالي على وضع الخطوط العريضة لكي تصل كليات الأعمال إلى نظيراتها في الدول المتقدمة وهي بذلك تعلم أن أهمية هذا العلم في بيئتنا لم تبدأ بعد. فمن ضمن ما قامت به وزارة التعليم العالي أن أدرجت تخصصات الأعمال ضمن التخصصات النوعية التي يقتصر الابتعاث فيها كما، وافقت الوزارة على منح تراخيص للقطاع الخاص من أجل الاستثمار في مجال الاقتصاد المعرفي ناهيك عن السعي إلى تشجيع التعليم الموازي في البرامج الأكاديمية في الجامعات القائمة. كما قامت بعض الجامعات السعودية بتصنيف كليات الأعمال ضمن قائمة الكليات النوعية ووفرت لها البنية التحتية المناسبة. وهذا ليس مقتصرا على الجامعات السعودية فحسب، بل إن كليات الأعمال في مؤسسات أكاديمية عربية أخذت حقها من الدعم الحكومي ومن دعم القطاع الخاص لا يتسع المكان لذكره.
ورغم هذا الفهم العميق والإدراك المبكر لدور كليات الأعمال وهذه المجهودات الضخمة، إلا أنها (كليات الأعمال) تصر على أن تكون في المؤخرة وفي ذيل القائمة وهذا بالفعل يحتاج إلى وقفة، وهنا سأحاول سرد الأسباب الحقيقية وراء التطور المحدود والنمو الضعيف لكليات الأعمال من وجهة نظري.
أول سبب - وقد أكون قد ذكرته في مقال سابق إلا أنه لا يمنع من ذكره هنا لأهميته – وهو سوء الهيكلة حتى أصبحت كليات الأعمال مؤسسات أكاديمية مشوهة في برامجها، متناقضة في خططها، تتصف بالازدواجية في تخصصاتها، وهذا يتضح من الأسماء المركبة التي تحملها والذي يوحي بأن هناك منتفعين من هذا التشوه.
وقد أدى سوء الهيكلة هذا إلى تسلل أصحاب التخصصات الرمادية إلى كليات الأعمال. والتخصصات الرمادية هي ذلك النوع من التخصصات التي يصعب تصنيفها لأن أصحابها يحملون درجات علمية في فروع مختلفة فالبكالوريوس في اللغة العربية على سبيل المثال والماجستير في علم النفس والدكتواره في الموارد البشرية، فترفض الكليات التقليدية استقبالهم مما يضطرهم إلى طرق أبواب كليات أخرى فلا يجدون من يستقبلهم سوى كليات الأعمال للتشوه المتعمد في هياكلها التنظيمية. كما أن هناك تخصصات في علوم مختلفة قريبة في المسميات – وليس في المحتوى - من تخصصات الأعمال نرى أصحابها يديرون ظهورهم لكلياتهم الأصلية ويتسللون إلى كليات الأعمال من أجل بدلات ومكتسبات مالية حتى أصبحت كليات الأعمال مزيجا من المتناقضات، هذا من الشريعة، وذاك من الهندسة، وثالث أصوله المعرفية كيمياء، ورابع يحمل مؤهلا في علم النفس. وقد كان الأمر مقبولا لو أن هؤلاء كلفوا أنفسهم واستوعبوا فكر الأعمال لكان خيرا لهم وأنفع لكلياتهم، إلا أنهم مصرون على البقاء بخلفياتهم المتباينة، بل يرون أنفسهم أنهم أهل الدار.
وهذه التناقضات ولدت قيما شاذة وبعيدة عن البيئات الأكاديمية، فيمكن أن ترى من خلفيته في فقه المعاملات يرأس الجلسات ويصوت على خطط ويلغي برامج ويقر أخرى وهو لا يعلم الفرق بين إدارة العمليات وبحوث العمليات. وترى صاحب الكيمياء يعدل في رسالة الكلية وفي رؤيتها، بل يصف كثيرا من مقررات تخصصية وهو يجهل أبسط أبجديات العلم.
السبب الثالث تنكر الأبناء الحقيقيين لكليات الأعمال لأنهم يرون أنفسهم - جهلا منهم – علما مستقلا لا ينتمي للأعمال بصلة. وقد انعكس هذا الفهم السقيم على البرامج فلم يتم ربطها بأصول العلم ونظرياته فلا يعلم الطالب في بعض تخصصات الأعمال كيف يتم تصنيفه. فرغم أنه يدرس في كلية الأعمال إلا أن البرامج والخطط لا تربطه بذلك البتة لأن هناك إنكارا ضمنيا من قبل القائمين على إعداد الخطط بتبعيتهم لكليات الأعمال، وهذا ليس رأي فرد أو اثنين بل هو فكر سائد في بعض كليات الأعمال في الوطن العربي.
السبب الرابع عدم قناعة قطاعات الأعمال في كثير من البلاد العربية بفكر ونماذج الأعمال، وتنظر إليه على أنه علم لا ينفع وجهل لا يضر، بل يرونه أحيانا ترفا يمكن الاستغناء عنه لأن قطاعات الأعمال قد أسست برامجها بطرق تقليدية سارت عليها منذ عقود وتبنيها لفكر ونماذج الأعمال سوف يكلفها الكثير لأنها تحتاج إلى إعادة بناء وتغيير كثير من أنظمتها وخططها التشغيلية.
هذه - في رأيي - أهم الأسباب التي أبعدت كليات الأعمال عن نظيراتها في الجامعات الدولية، وأفقدت هذا العلم بريقه والإفادة منه، ولذا نرى كثيرا من كليات الأعمال هائمة، ضالة، فقدت بالفعل البوصلة - فلا تدري ماذا تريد؟ ولا تعرف بالضبط أين تتجه؟ فرسالتها عقيمة خاوية، ورؤيتها ضبابية، وبرامجها متداخلة، وهياكلها معوجة تصيبك بالتقيؤ.
لذا أرى أنه من المناسب تدخل الوزارات المعنية في الدول العربية لإصلاح كليات الأعمال حتى تستفيد منها اقتصاداتنا بتهذيب برامجها وإعادة الأمور إلى نصابها، وتفريغها من العابثين والعبثيين، وإخراج غير المتخصصين. وحتى تتضح الصورة أكثر أتمنى عقد مؤتمر يبحث مثل هذا الأمر المهم حتى لا تبعدنا المجاملات عن خدمة برامجنا الجامعية وإصلاح مؤسساتنا الأكاديمية.