ديوان المراقبة والتلاعب بالاعتمادات مع نهاية العام المالي
لا شك عندي أن ديوان المراقبة العامة يبذل جهدا كبيرا في الرقابة على المال العام، وأن موظفي الديوان في حسبة وجهاد لمواجهة مارد الفساد الذي يبرز إذا زاد الإنفاق الحكومي وتوسعت الدولة في المصروفات خاصة مع نهاية العام المالي، ولعل جزءا من نقدي السابق لديوان المراقبة كان ينصب أساسا على قدم مفاهيم العمل وأن عالم المراجعة والرقابة قد تغير جذريا، ومع ذلك فإن أساليب وطرق الديوان لم تتغير كثيرا بما يتواكب مع كل هذه التغيرات الهائلة في المهنة، فبعد أن كانت المهنة ترتكز على مراجعة العمليات، تحولت بعد ذلك إلى مراجعة الأنظمة، ثم مراجعة مستندة إلى المخاطر ثم مخاطر الأعمال، وفي هذا لا فرق بين مراجعة الشركات ومراجعة القطاع العام أو بين المراجعة الخارجية والمراجعة الداخلية، ورغم كل هذا التنوع الضخم والتغيرات الهائلة لم يزل ديوان المراقبة العامة يعتمد في أعماله على مراجعة العمليات والعقود ومراجعة يسمونها "الشاملة"، لكنها بلا استراتيجية واضحة تستند إلى المخاطر.
لعلي في هذا المقال ألفت نظر ديوان المراقبة العامة - وهو بالتأكيد يهتم بذلك - إلى إدارة المخزون وأعمال المستودعات في القطاع الحكومي وكيف تستخدم للتلاعب بالاعتمادات خاصة عند اقتراب نهاية العام المالي. سأوضح الفرق هنا بين مراجعة مستندة إلى المخاطر ومراجعة مستندة إلى العمليات، فوفقا للمراجعة المستندة إلى العمليات، يركز ديوان المراقبة أعماله على متابعة تنفيذ قواعد وإجراءات المستودعات وعمليات إدارة المخزون، وذلك كمهمة روتينية ضمن مهام متعددة مجدولة منذ بداية العام المالي. يركز عمل موظفي الديوان على تنظيم المستودع ومراجعة بطاقات الصنف وبطاقات العهد، ومن خلال مراجعة بطاقات الصنف يتعرف موظف الديوان على الرصيد الفعلي للأصناف الموجودة ثم يقوم بعمليات جرد للتأكد من صحة الرصيد فعليا، وهذا يتم من خلال استخدام أسلوب العينات، لكن المشكلة تظهر إذا كانت بعض هذه الأصناف منقولة مثل السيارات، فهي لن تكون متوافرة في المستودع، بل هي على شكل عهد لدى الموظفين وفي الميدان، هنا يعتمد مراجعو الديوان وفقا لطريقة مراجعة العمليات على سجلات إدارة المخزون بحيث يتأكدون من بطاقات العهد والتأكد من سلامة عمليات التسجيل والتسليم، لكن يبقى السؤال عن حقيقة وجود هذه السيارات فعليا. هنا يأتي الفرق بين مراجعة تستند إلى المخاطر ومراجعة العمليات. فالمراجعة على أساس العمليات تركز على سلامة الإجراء وعملية التسجيل، لكن المخاطر تركز على ما الخطر في هذا الموضوع (غش، سرقة، اختلاس تحريف، تزوير)، ما درجته (مهم، متوسط، ضعيف) متى يحدث وتكراره وكيف، وما وسائل منعه؟
أين الخطر في عهد كالسيارات مثلا، هل هي في عمليات الشراء أو في تسليم العهد، المشكلة أن أكثر أعمال وعهود الجهات الحكومية التي ترتكز على شراء أصول مثل السيارات في الميدان والأجهزة في المعامل والمكاتب لن تجدها في المستودع ولن يتمكن المراجع من جردها فعليا. وعدم الجرد الفعلي يعني غياب أهم دليل في المراجعة وهو الوجود الحقيقي للأصل، فالخطر أن تجد الكثير من الأصول موجودة على الورق وهناك تسلم وتسليم بين المورد والجهة الحكومية لكنه على ورق فقط، بينما لا شيء حقيقي موجود. ولعل أهم وأخطر أساليب الفساد والغش والتلاعب تتم في هذا الجانب خاصة عندما يكون لدى جهة حكومية فوائض في البنود مع اقتراب إقفال الحسابات والاعتمادات، فتقوم الجهة بالتعاقد مع شركة موردة (كمورد دائم للجهة) من أجل إثبات عمليات الشراء والتسليم ولكن لا يوجد أي عملية حقيقة، بل مجرد أعمال صورية من أجل اقتسام قيمة البند بين المشاركين في التلاعب. ومهما قام ديوان المراقبة بمراجعة السجلات (وفقا لأسلوب مراجعة العمليات) فلن يجد شيئا طالما لم يركز على أهم دليل وهو الوجود الفعلي لهذه الأصول، أو دليل (وهذا مهم أيضا) على عدم وجودها.
كمثال - واقعي - من إحدى المؤسسات الحكومية التي كانت تشتري كل عام رافعة شوكية للمستودعات، وهذه الرافعة تختفي ويأتي طلب مع نهاية العام بشراء رافعة شوكية جديدة خاصة مع إقفال الاعتمادات، وفي جهة حكومية أخرى يتم مع نهاية العام المالي إقفال الاعتمادات من خلال شراء أصول تحول إلى عهد فورا مثل السيارات في الميدان أو الأجهزة في القاعات أو المكاتب. ما يحصل هو تنفيذ شراء مباشر من الشركة "المعتادة" وإغلاق البنود ويتم الصرف بأوامر الدفع من المالية التي تهتم فقط باستكمال الأوراق النظامية وتقوم بإصدار الشيكات للشركة الموردة التي تحصل على المبالغ ثم تقوم بتوزيعها على المشاركين في العملية بينما لا يوجد أي أصل دخل الجهة الحكومية فعلا، إذا قام ديوان المراقبة بالمراجعة في أي وقت فإن ما سيحصل عليه وهو أوراق وعهد لكن السيارات والأجهزة في الميدان، لن يتأكد أحد من وجودها فعليا.
عندما نستخدم نموذج المراجعة وفقا للمخاطر، فإن أخطر وقت للتلاعب بالميزانيات والاعتمادات يأتي مع نهاية العام المالي، وفي مثل هذا النوع من الأصول، فلو أن ديوان المراقبة العامة يعيد ترتيب إجراءاته وفقا لهذه المخاطر المحتملة وينفذ عمليات مراجعة وتدقيق لهذه المشتريات التي تتم في هذا الوقت من العام بالذات، ويقوم بمتابعة أو رصد تسليم العهد فعليا، لحقق الكثير من الإنجاز الفعلي بدلا من مراجعة عمليات روتينية لا تقلل من المخاطر الحقيقية في الغش والتلاعب. فالمراجعة وفقا للمخاطر تبدأ كما قلت من تحديد تلك الموضوعات التي تشكل فرصا حقيقية للغش والتلاعب، ومن ثم التركيز عليها وبناء خطة المراجعة واستراتيجياتها وأعمال الفريق لمتابعة إجراءات الرقابة عليها ومن ثم اكتشاف أي ثغرات رقابية على هذه المخاطر، ومن الطلب من الجهة أن تطور الإجراءات الرقابية على هذه الأمور، وأن يقوم الديوان كل عام بالتأكد من قدرة هذه الإجراءات الجديدة على الحد من المخاطر أو أن يتم تطوير إجراءات مراقبة جديدة إذا نتجت مخاطر جديدة. والله أعلم.