رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الحكومة ومقدرات الوطن

منذ النقاش الضخم الذي اندلع مع ظهور علم الاقتصاد إلى الوجود في القرن السابع والثامن عشر، وظهور النظرية الرأسمالية، ثم تبعتها الماركسية الشيوعية، منذ ذلك الحين تمحور النقاش حول دور الحكومة في كل مشروع، فلقد رآها الشيوعيون مصدرا للفساد؛ لأنها تشرع للرأسماليين ما يُمَكّنهم من السيطرة على مقدرات الشعوب والعمال الذين هم وقود الإنتاج الحقيقي ومصدر الثروات التي ينعم بها الرأسماليون، ولذا فإن الحكومات بفعلها ذلك- في نظر الشيوعية- هي من تصنع الطبقات التي تؤدي إلى الظلم، ولذا فإن إنهاء الدولة وتحطيم الحكومة هو الحل للمشكلة. ولكن كل التفسيرات الفلسفية لهذا المشروع فشلت تماما في أن تقدم حلولا عملية لذلك الإنهاء، ولهذا علقت الشعوب التي آمنت بها في فتن وحروب عريضة، ولا يزال أثرها متراكما حتى اليوم، فما إن تهدأ الثورات في أرض حتى تندلع الحرب في أرض أخرى، ولا يجتمع شعب على رأي حتى يعود لينقسم مرة أخرى.
المشكلة أعمق من مجرد نظرية شيوعية أو رأسمالية، فرفاه الشعوب مرهون بصهر كل مقدرات الوطن وموارده في عقد اجتماعي واحد يضمن استخدام جميع الموارد المتاحة بأفضل طريقة، ويضمن كذلك توزيع الدخل الناتج من استخدام الموارد بعدالة بين كل من ساهم في إنتاج الثروة. فمن يصوغ هذا العقد، ومن يضع شروطه، ومن يضمن أن جميع الأطراف ملتزمة بتنفيذه. لقد ظنت الشيوعية أن الحل بسيط وهو إلغاء العقد نفسه، وذلك بأن تلغى الملكية الفردية تماما، وأن تصبح كل الموارد مشاعا والكل له حصة في الكل، ولهذا فإن الدخل يوزع على الجميع بالتساوي، لكن من يطبق هذا الحل على أرض الواقع، وكيف؟ جاءت الشيوعية بالدكتاتورية والسلطة المطلقة لحزب واحد كحل، ثم اكتشفت الشعوب أن ذلك الحزب هو الذي أصبح يمتلك كل شيء، ومن يريد نصيبا من الموارد والدخل فعليه أن ينضم إلى الحزب، ومن عارضه فقد كل شيء، وهكذا عادت الشيوعية إلى الطبقية التي هربت منها، وأصبحت الشعوب فئات: فئة تملك كل شيء، وفئة لا شيء لها، فانهارت الشيوعية بثورات شعبية جديدة، وعادت الشعوب إلى المربع الأول، وهو العقد الاجتماعي الذي تضمنه الحكومة، وبقي السؤال: من يشكل الحكومة؟
لكن من اللافت للنظر أن الحكومات بصورتها الشعبية ظهرت بعد الثورة الفرنسية مع الإطاحة بالملكيات الأوروبية في ذلك الحين، وقيل حينها إن الحكومة تمثل الشعب، لكنها في الحقيقة لم تكن تمثل سوى الطبقة البرجوازية التي انتقلت لها ثروات الملكية المنهارة، وقد صنعت تلك البرجوازيات رأسمالية بغيضة في ذلك الحين، وتسببت في اندلاع ثورات العمال. وللحل حاولت الرأسمالية الغربية ومنظروها استمالة العمال الثائرين، فوافقت على إنشاء الأحزاب العمالية التي دعت إلى منظومة اشتراكية، هي أقل وطأة في نظرتها للحكومة من الشيوعية المتطرفة، حيث رضيت بالعقد الاجتماعي، ورضيت بالحكومة، لكن هذا المسار العالمي على الرغم من صموده حتى الآن لم يستطع حل المشكلة الأساسية، من يضمن عدم فساد الحكومة.
فساد الحكومة ليس يعني سرقتها مقدرات الشعوب، وليس يعني بالضرورة الاختلاس والسرقة، بل إنه يعني الانحياز إلى فئة من الشعب دون غيرها. إنه يعني اضطهاد الأقليات، وفرض الحلول باسم الأغلبية. وهذا الفساد أصيل في النظم الديمقراطية، ذلك أن الأغلبية التي فازت في المعارك الانتخابية هي التي لها دوما الحق في تشكيل الحكومة، وعلى الرغم من الدعوات التي لا تنتهي حول التمثيل العادل وتقاسم السلطات، إلا أن الحلول دائما ما تنتهي إلى حكومات فاسدة. ذلك أن الأغلبية الشعبية التي انتخبت الحكومة هي التي تضغط عليها باستمرار من أجل سن القوانين التي تمنحها الامتيازات دون مراعاة لحقوق الأقلية، وينتهي الأمر في أغلب الأحوال- كلما يئست الأقليات من الحلول الديمقراطية- إلى الحل المسلح من أجل الاعتراف بحقوقها المنهوبة.
وهكذا سيظل العقد الاجتماعي المقبول بين الجميع مستحيلا علميا ومشكلة بلا حل، طالما نحن بشر ومختلفون جوهريا كطبيعة لازمة لنا، لكن فساد الحكومات ليس بالضرورة أن يحصل، طالما هي قادرة على ضمان إعطاء كل ذي حق حقه، كما أنه ثبت عمليا أنه ليس بالضرورة أن تكون الديمقراطية والثورات حلا أصيلا لهذه المشكلة، وما نلاحظه من انهيار شامل لكل النظم الجمهورية العربية من حولنا، وفشلها تماما في تقديم مشروع حقيقي واقعي على الرغم من كل المساحة من القوة التي منحت لها، هو في الأصل فشلها في أن تحقق العدالة والحياد وحفظ حقوق جميع طوائف المجتمع. ومع ذلك فإن المشكلة قد تحل وبكفاءة من خلال النظام الملكي العادل، الذي ثبتت جدواه في حفظ الأمن والرفاه للدول العربية التي أبقت على النظام الملكي وتجنبت شعوبها ويلات الثورات المتتابعة بلا جدوى، ولكن هذا يحدث فقط إذا كان الملك محايدا وبالتالي عادلا. ولهذا القدر العظيم للملك والأمير العادل فقد جاءت السنة النبوية مبشرة له بأنه أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفي المقابل توعدت من مات وهو غاش لرعيته.
فالنظام الملكي الذي يعطي سلطة للملك ولكنها في الوقت نفسه سلطة مقيدة بالعدل والحياد بين أفراد رعيته، سيضمن الاستخدام الأفضل للموارد المتاحة، ويضمن أيضا من خلال عدله التوزيع العادل للدخل بين الأفراد، وأن يأخذ كل ذي حق حقه. كما يمنع الاحتكار وتأثيره الضار على الاقتصاد بحجج الملكية الفردية الوهمية التي قد تمنع الاستخدام الكفء للموارد المتاحة للوطن. والملك من خلال عدله وحياده يقوم باختيار الحكومة التي يجب أن تمثل الملك العادل والمحايد، ولذا فإنه يجب على الوزراء التحلي بأعلى مستوى من الحياد، فلا تستطيع فئة من الشعب أن تمارس ضغطا على الوزير أو الوزارة، مهما بلغت أغلبيتها أو ثراؤها وقدراتها، وليس له الحق في أن يتجاهل حقوق الأقليات والفئات الضعيفة من المجتمع ومهما نأت بها جغرافية الوطن، أو اختلف معها مذهبيا، طالما الجميع يخضعون لسلطة للملك.
في يوم الوطن نؤكد تماما أن الحلول المستوردة هي التي جرَّت على الأمة، كل وليات الحروب و الدمار، والتحزبية البغيضة والطائفية المذهبية الخطيرة، وباسم حكم الشعب، والديمقراطية، تم تنفيذ الجرائم وسفك الدماء وهتك الأعراض، وباسم الأغلبية الحزبية يتم الاستئثار بالموارد وحرمان الأقليات من أبسط حقوق المواطنة، والحياة الكريمة، وليت كل الذين يتشدقون بالحلول الديمقراطية ويستحلون دماء الأقليات باسم الدين يعرفون قصة عمر - رضي الله عنه- الذي كان يمثل السلطة العادلة في زمنه وهو يفرض مبلغا شهريا لرجل نصراني فقط لأنه من رعاياه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي