الأستاذ «أكروبات»
لم يكن مديري السابق ــــ وهو باكستاني الجنسية وعلى قدر عال من التأهيل ــــ يفكر بطريقة "خضراء" أو يهتم بموضوع البيئة كثيرا بقدر ما كان مهتما بتوضيح فوائد قراءة المعلومات من شاشة الكمبيوتر مباشرة، وتجنب طباعة التقارير والملفات للقراءة. كان يقول: "لا تضيع وقتك بالطباعة، تمكن من قراءة ملفات "بي دي إف" PDF بطريقة سريعة ومؤثرة، رتب مكتبتك الإلكترونية، وتعلم كيف تتصفح وتمحص أي مستند بارتياح، سواء كان تقريرا أو قانونا أو بحثا". ويضيف: "قريبا جدا، سيأتي وقت يتقدم فيه فقط من يجيد التعلم من شاشات الكمبيوتر، سيصبح الاقتصار على التقارير والمواد المعرفية المطبوعة مجرد أسلوب قديم يستخدمه المتأخرون".
على الرغم من مرور عشر سنوات تماما على هذه النصائح إلا أنني تحققت من صحتها فورا في ذلك الوقت، عندما رأيت من يحصل على تقدير من حوله ــــ والترقيات كذلك ــــ لأنه يعرف أكثر، وكان يعرف أكثر لأنه يقرأ أكثر وأسرع من غيره مستخدما الشاشة بطريقة مباشرة وبسيطة؛ مجرد الطباعة وانتظار فرصة القراءة كان يعني المزيد من الانتظار والقليل من الاستيعاب، ومن ثم التأخر وتفويت الفرص. الفكرة ليست في مقارنة الوسائط الإلكترونية بالوسائط الورقية وتأكيد سيطرة إحداهما، بل باختصار: إجادة مهارة استخلاص المعرفة من الوسائط الإلكترونية، فهذا يعني الحصول على نتائج أفضل وأسرع؛ أي ضَعف في هذه المهارة ينعكس مباشرة في النتائج.
تحمل ملفات الـ "بي دي إف" ــــ أو "تنسيق المستندات المحمولة" ــــ مليارات المعلومات التي تستمر في التجدد كل يوم، وقد تكون إحدى أكبر الوسائط التي حملت المعرفة على مدى التاريخ. كانت البداية في أوائل التسعينيات الميلادية عن طريق عملاق برمجيات الإنترنت شركة أدوب سيستمز التي تسمى هذا المنتج المستندي التفاعلي "أكروبات"، وهي عائلة من البرمجيات التي تقدم العديد من الخدمات المجانية وغير المجانية لخدمة مشاركة المستندات وما تحمله هذه المستندات من معرفة. تشكل أكروبات مع العديد من الوسائط الأخرى قوام تخزين وعرض المعرفة المستندية في شبكة الإنترنت، ولكن جودة ونجاح "بي دي إف" صنعت منها الخيار الأساسي في أرشفة الوثائق الحكومية وأعمال الشركات وأيضا المقالات العلمية والتقارير المتنوعة التي يتم تبادلها كل يوم على شبكة الإنترنت.
تقول البروفيسورة أنا مانجان من المركز الوطني لتعليم وأبحاث القراءة في النرويج: "تختلف تجربة القراءة حسب الوسيلة المستخدمة، سواء كانت إلكترونية أو غير إلكترونية، حيث تؤثر الوسيلة وطريقة التعاطي معها على النتيجة النهائية للقراءة". تشير الأبحاث إلى أن الانتقال إلى قراءة الوسائط الإلكترونية مثل "بي دي إف" يعزز من مهارات التصفح السريع والبحث عن المفردات والأفكار المحددة، بينما قد يكون هذا على حساب الفهم العميق والمتتابع للموضوع. على الجانب الآخر تسمح طريقة عرض المصادر على الإنترنت من التعرض لمواضيع عدة مترابطة والإحاطة بالمصادر والمعارضات والموافقات ربما في عدة دقائق فقط، وهو أمر كان يستهلك السنوات أحيانا قبل وجود الإنترنت.
التحول للقراءة الإلكترونية لا يعني فقدان ميزة الفهم العميق الذي كان يحصل بالقراءة العادية، وإنما يعني ضرورة تنمية بعض المهارات الجديدة لاستثمار التقنية والحصول على نتائج أفضل. من هذه المهارات التمكن من التركيز المستمر والالتزام بذلك حتى في وجود المؤثرات السلبية أثناء قراءات النص ــــ مثل الإضاءة والألوان وأسلوب العرض ــــ أو خارج إطار النص ــــ مثل ترابط الملفات وكثرة العناصر والمعلومات.
لا يقتصر الحديث عن قراءة ملفات "بي دي إف" على أسلوب القراءة نفسه، بل يرتبط العمل بطريقة إدارة مكتبة الملفات، سواء كانت الاستفادة شخصية أو على مستوى المنشأة. مع الأسف، تفشل الكثير من المنشآت في حيازة وعرض وتبويب معارفها بطريقة منظمة وسلسة، على الرغم من وجود العديد من الحلول التي يمكن استخدامها. الحلول موجودة حتى على المستوى الشخصي مثل برامج إدارة المصادر العلمية المفتوحة المصدر التي يمكن استخدامها حتى للتقارير العادية ويمكن عن طريقها تبويب هذه الملفات والتأشير داخل النص وكتابة الملاحظات والمتابعات وغير ذلك.
لم نستهلك أكثر من بضعة عقود لننتقل من كتاتيب الألواح الخشبية إلى بحر الأستاذ "أكروبات"، وبينهما تغير العالم والتاريخ. لقد انتقلت المهمة إلى المعلمين الجدد ولكن تضاعفت المسؤولية أكثر على القارئ. التعامل مع المعرفة والاستفادة منها فن يتطلب العديد من المهارات التي توشك أن تصبح متطلبات رسمية للنجاح، إذ يتحول البعد عنها إلى اختيار طوعي يسبب التأخر والفشل.