الفقر .. للحديث بقية
استطرادا لمقال الأسبوع الماضي حول معالجة حالات الفقر في بلادنا, يمكن القول إن أهم مقياس لها هو السكن, فعندما يصعب على غالبية المواطنين من الطبقة الوسطى, وهي أكبر شرائح المجتمع وأوسعها, كما قلنا, تملك مساكن فهذا مؤشر يدل على حالة من حالات الفقر. وحين أضرب مثالا بالسكن فإني أفعل ذلك لعدة اعتبارات أولها أن السكن يمثل جزئية أساسية في حياة الفرد, وثانيها أن وجود نسبة كبيرة من السكان ومعظمهم من الطبقة الوسطى التي تضم موظفين وعاملين بمن فيهم أساتذة الجامعات, بمعنى ممن لديهم دخول ثابتة وجيدة, غير قادرين على تأمين سكن لهم ولأسرهم, فهذا يعني أن حالات الفقر واسعة, وإن لم تصل إلى الفقر المدقع. والأمر الثالث أن نسبة المواطنين المالكين السكن تحدد مستوى الرفاهية ويعكس ذلك ما قاله لي أستاذ جامعي مرة حين ناقشته بملاحظة ضعف الأداء الأكاديمي لأساتذة الجامعات بقوله: كيف تريد منا أن نتفرغ لمهامنا الأكاديمية ونحن منشغلون بمعيشتنا؟ وأضاف هامسا في أذني: هل تصدق أني وبعد سبع سنوات وأنا أستاذ جامعي ما زلت أسكن في شقة مستأجرة؟!
شكوى هذا الأستاذ الجامعي تعكس أحد جوانب الفقر, وهذا يعيدنا إلى تعريف الفقر لمنتدى العالم الثالث الذي حدده بـ "عدم القدرة على تحقيق مستوى معين من المعيشة المادية. وهنا لا بد لنا أن نفرق بين تصنيف الفقر بين دول فقيرة معدمة الإمكانات تقريبا وأخرى غنية أو ميسورة, فمن يصنف فقيرا في دول غنية وميسورة لعدم قدرة دخله على تأمين حياة ميسورة على الأقل, يصنف في دول فقيرة غنيا, فكم تحول أفراد من دول فقيرة ومعدمة عملوا في دول الدخول فيها مجزية كالمملكة وبقية دول الخليج إلى أثرياء في بلادهم لكون ما يحصلون عليه من دخول فيها تؤمن لهم ما لم يحلموا به, فالأجر الذي يحصل عليه أحدهم في تلك الدول يمثل قوة شرائية كبيرة بعملة بلادهم لتدني مستوى الأسعار هناك.
المشكلة التي نواجهها في بلادنا ليس في قلة الدخل, فالرواتب سواء في القطاع الخاص أو العام مجزية, ولكن المشكلة تنبع مما ركزنا عليه في مقال الأسبوع الماضي, وأقصد به الأسعار المؤدية إلى غلاء المعيشة, والضحية الأشد تأثرا بذلك هي الطبقة الوسطى. وكما أشرنا في الأسبوع الماضي نقلا عن متخصصين أن هذا الغلاء سيحول معظم أفراد الطبقة الوسطى إلى حالة الفقر حين تصبح دخولهم قاصرة وغير قادرة على تلبية احتياجاتهم الأساسية مما سيوسع من دائرة الفقر وفق مقاييس غنى الدول وفقرها, وارتفاع الأسعار غير المنطقي في معظم الحالات, لا يعود إلى مبررات مقبولة, فهناك من يستغل التراخي في المتابعة لرفع الأسعار, ولا تتم إعادتها إلى ما كانت عليه إلا نادرا وبقدر بسيط جدا, وهذا ما يضاعف من الأثر السلبي لها المؤدي إلى تدني مستوى المعيشة.
معضلة الأسعار أو الغول المخيف عندما تخل سلبيا بالتوازن ما بين الدخل والمصروف, هي أساس مشكلة ارتفاع مستوى المعيشة التي تقلل من إمكانات الناس المادية, خصوصا أن جزءا كبيرا من ارتفاعها غير مبرر, كما ذكر الدكتور عبد الله دحلان عضو مجلس الشورى (جريدة "الشرق الأوسط" 30 آذار (مارس), مضيفا أنه "لا توجد نسبة وتناسب بين نسب الارتفاع الدولي والارتفاع المحلي في السوق السعودية". وهذا معناه أن هناك جزءا من التجار يرفعون الأسعار بلا مبرر سوى استغلال ظروف لا علاقة لها بسعر السلعة التي يسوقونها. ويلقي الدكتور دخلان بالمسؤولية في ذلك على تجار التجزئة مستغلين عدم وجود رقابة من وزارة التجارة وصمت وزارة المالية, وهو ما أكده مسؤول رفيع ـ حسب الجريدة نفسها ـ في وزارة التجارة, حينما ألقى بمسؤولية ارتفاع أسعار مثل أدوات البناء والسيارات على التجار, نافيا أن يكون للوزارة دخل في ذلك, والحقيقة أن ارتفاع الأسعار في معظمه يعود إلى استغلال التجار قاعدة العرض والطلب, فيرفعون أسعارهم حينما يزداد الطلب مع أن سعرها من المصدر لم تطرأ عليه أي زيادة, وهذا جانب من جوانب الجشع.
الجانب المهم في ذلك كله وما له علاقة بالفقر ومعالجته هو في الحاجة إلى وجود إجراءات وأنظمة وبرامج اقتصادية تسهم في تشكيل معالجة وقائية لحالات الفقر, وأهم أهدافها هو صد حمى ارتفاع الأسعار وتأثيرها السلبي والضار, والمؤكد أن الحل ليس في زيادة الدخل مثلا كرفع كم الرواتب, بل الحل يكمن في وضع أسس اقتصادية تضبط السوق, وأولها إيجاد آلية رقابية للسوق لضمان عدم رفع الأسعار بلا مبررات, وحتى لو وجدت مبررات تعمل على ضمان عودتها إلى ما كانت عليه حينما تزول هذه الأسباب, وإذا تسببت ظروف خارجية مبررة كارتفاع السعر من المصدر مما لا نستطيع التحكم فيه, على الدول هنا أن تتدخل بحكم مسؤوليتها بدعم السلع الأساسية حتى تصل إلى المستهلك "المواطن" بصفة خاصة بنسبة معقولة. وفي هذا السياق نؤكد ضرورة إعادة النظر في قيم خدمات أساسية كسعر الكهرباء والهاتف التي بوضعها الحالي ترهق الدخول وتتكالب مع أسعار السلع الأخرى على المواطن وتعوق محاصرة نشوء حالات فقر جديدة, فالدولة التي وفر الله لها معدل دخل مرتفعا يمكنها من استثماره لرفاهية مواطنيها, لا بد أن توظف جزءا منه في إيجاد توازن دائم بين دخولهم ومصروفاتهم للمحافظة على مستوى معيشي مناسب, وليس قصر توظيف المال العام على إنشاء مشاريع المستفيد الأول منها هم شريحة رجال الأعمال والمستثمرين, فالمواطن من خارج هذه الشريحة يريد أسعارا تتناسب مع كم دخله بل تقل عنه, ومن ذلك أيضا إيجاد برامج تمويل ميسرة تمكن أكبر شريحة من المواطنين من تحقيق حلم السكن الذي بات اليوم معضلة حقيقية بسبب أسعاره غير المقدور عليها, هذا هو المطلب إن كنا فعلا نريد معالجة حالات الفقر, وإلا في ظل ما يحدثه ارتفاع الأسعار من فجوة ستسوطن حالات الفقر وتصبح من النوع الثابت والمتواصل.