فقه الدليل
حينما نتحدث عن فقه الأدلة الشرعية فإن من أوائل الأحكام القطعية أن أدلة العقيدة وأصول الديانة والفقه هي: الكتاب، السنة، والإجماع، وهذه الأدلة محل إجماع بين فقهاء المسلمين أجمعين، وثمة أدلة أخرى اصطلحت طوائف من أهل الأصول على تسميتها بـ "الأدلة المختلف فيها" وهي تبدأ من القياس، قول الصحابي، والاستصحاب، كمنزلة أولى، ثم يأتي ما يسمى المصلحة المرسلة، عمل أهل المدينة، والاستحسان، ونحو ذلك.
ومن المتقرر كقاعدة شرعية ضرورية الديانة: أن الدليل هو ما جاء عن الله أو عن رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأما الإجماع فمنه ما يكون على مقام التحقيق والانضباط كإجماع الصحابة أو إجماع الطبقة الأولى من الأمة في المسائل التي ضُبط الإجماع فيها، ومنه ما يكون دون تلك المنزلة من التحقيق والانضباط، ومن ثمَّ فإن الناظر في فقه الشريعة يرى أن ثمة مسائل من فروع الشريعة يُذكر فيها الإجماع ليس أمرها على باب الإجماع المحقق، ولمَّا أدرك من أدرك من الأصوليين هذا المعنى تكلموا فيما سُمي الإجماع الفقهي والإجماع الظني، أو ما يسمى الإجماع السكوتي.
الحاصل أن الإجماع إذا صح وانضبط فإنه مبني على الكتاب والسنة، بمعنى: أنه لا يمكن أن يجمع العلماء على مسألة إلا وفيها نص من الكتاب أو السنة على الحكم، سواء كان هذا النص خاصاً، أو كان متحصلا عن طريق النظر في تواتر دلالة عامة على هذا الحكم.
وما عدا هذه الأدلة "الكتاب، السنة، والإجماع" حقيقتها أنها أدلة متولدة من الدليل الشرعي المنضبط، فالقياس عبارة عن دليل متولد، وكذلك ما يتعلق بالاستصحاب، فهذان الأصلان من الاستدلال لهما قدر شائع عند العلماء، وكأن عامة أهل العلم المتقدمين - أو جماهير الأئمة المتقدمين - كانوا على تصحيح الاستدلال بمسألة القياس، وإن كانوا متفاوتين في اعتبار هذا الدليل، وجملة ما ينقله بعض متأخري الفقهاء من إنكار القياس عن بعض المتقدمين إنما هو في مسائل بعينها، أما إبطال القياس جملة تمثيلا كان أو شمولا فغير متحصل؛ إذ لسائر الأئمة قول معروف فيما يتعلق بقياس الشمول.
والناظر يرى أن أشد الذين كانوا يغلقون مسألة القياس من المتقدمين وممن صار له أصل مشهور في الفقه هو: داود بن علي، ومع ذلك تجد له كلاما في النص ودليله جملةٌ كثيرة منه هي من باب ما يسمى بقياس الشمول، ومما يقصد إلى التنبيه عليه عند النظر في جملة الأدلة المختلف فيها أنه لا يلزم من النطق بهذه الأدلة أو استعمالها عند من استعملها أن تكون في نفس الأمر حجة ملزمة عنده، بل ربما اعتبرها حجةً محركةً إلى الحكم، مستظهرةً له، أو بتعبير آخر "حجة ظنية"، يكون اعتبارها على سبيل القرائن ودلائل الترجيح للأحكام.
وهذه مسألة ينبغي لمن تصدر للنظر في فقه الشريعة وأدلتها أن يكون على قدر من التحصيل والإدراك لها، والله الهادي.