تضخم الميزانية ليس صحيا
ما الذي يحدث عادة للبالون عندما يصل حجمه إلى نهايته أو قمة حجمه؟ بطبيعة الحال، سينفجر ويفقد قسما كبيرا من حجمه الذي كان قد وصل إليه. وهذا هو ما نخشى حدوثه لميزانية الدولة التي تتضخم سنة بعد سنة، بفضل من الله ثم المداخيل النفطية المتصاعدة، والتي كلنا ندرك أنها لن تدوم طويلا. فقد تضاعفت الميزانية العامة أربع مرات خلال السنوات العشر الماضية، حيث بلغت آخر ميزانية لعام 2014، 820 مليار ريال. وجدير بالذكر أنه كان يصحب الميزانية خلال السنوات القليلة الماضية فائض مالي كبير، يتفق أغلب المحللين أنه لم يستثمر على الوجه الأفضل ولا هو وضع في صناديق سيادية تحت إشراف نخبة من ذوي الاختصاص. ونحن نعلم أن دخل الميزانية ليس من مجهودنا ولا من إنتاج سواعدنا وعقولنا، بل من المخزون النفطي الذي نزل علينا هبة من الله. ووجدنا أنفسنا بقدرة قادر نتصرف فيه كما يتصرف إنسان بورثه من أبيه. وكان الأولى أن نستثمر قسطا كبيرا من دخل النفط في مشاريع منتجة وذات مردود اقتصادي كبير، لعلها تدر علينا دخلا إضافيا ولو متواضعا، بدلا من جعلها جزءا من الميزانية. ومن الأفضل أن يكون الاستثمار في مشاريع طويلة المدى حتى لا يكون المال عرضة للصرف في أول عجز يصيب الميزانية. وبمعنى آخر، أبعدوه عن متناول المسؤولين عن الميزانية. وتضخم الميزانية المتوالي ما هو إلا نتيجة لعوامل غير طبيعية، متمثلة في ارتفاع مستوى الإنتاج النفطي وصعود الأسعار، وكلاهما آني وقابل للزوال. فمع إيماننا بأن احتمال استمرار ارتفاع الأسعار هو أمر وارد، إلا أن كمية الإنتاج تقترب الآن من الذروة. وما بعد الذروة إلا الانحدار. وسوف يصاحب ذلك أيضا ارتفاع كبير في تكلفة الإنتاج الذي سيؤثر على مجمل الدخل. ومع مرور الوقت يقل دخل الميزانية بالوتيرة نفسها التي كانت ترتفع فيها صعودا، ويكون ذلك متزامنا مع نمو سكاني مخيف في بلد لا يملك أي مصدر للدخل مستقل عن المداخيل النفطية الناضبة. نحن مقبلون لا محالة على وضع سوف يعيدنا إلى نوع من حياة التقشف التي مرت بنا سنوات مضت، قبل الطفرات التي نعيش تحت ظلالها اليوم. وكل ما نحتاجه هو قليل من العقلانية والتفكير السليم والرؤية في مصيرنا حتى لا نكون عرضة للصدمات الاقتصادية في وقت تكون فيه الأمور أكثر صعوبة من ذي قبل.
وتضخم الميزانية العامة نتيجة للزيادة السنوية للدخل النفطي يؤدي إلى ارتفاع مستوى الصرف على المشاريع التي أغلبها ليس له مردود اقتصادي ولا يوفر وظائف للمواطنين. بل إن المستفيد الأول والوحيد منها هم أصحاب العمل المنفذون والعمالة الأجنبية. وفي كل سنة يكون الصرف فيها أكبر من التي سبقتها، وهو أمر طبيعي إذا توافر المال. ناهيك عن المساعدات والهبات الخارجية بسبب وجود الفوائض المالية الضخمة تحت أيدينا، بينما هناك من هم في حاجة ماسة للمساعدة. ومن العوامل السلبية التي نعانيها الآن بسبب تضخم ثرواتنا النقدية التي نجنيها من إسرافنا في الإنتاج هو مضاعفة استقدام العمالة الوافدة التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا وضرورة لدوام رفاهيتنا ومن أجل خدمتنا، وفي الوقت نفسه، فهي أيضا تكوِّن عبئا ثقيلا على اقتصادنا وعلى البنية التحتية في مدننا. وهناك في هذا العالم من الدول الغنية من يملكون من الثروات الطبيعية والإنتاج الصناعي أكثر مما نملك ويعيشون حياة معيشية راقية، ومع ذلك فهم يقومون أنفسهم بجميع متطلبات حياتهم من بناء وخدمات وإنتاج، ولم يضطروا إلى الاستعانة بالأيدي الأجنبية إلا في حدود ضيقة، وليس رغبة في الراحة والكسل والخمول. ونحن أولى بأن نتدبر أمورنا ونتجنب الإسراف الفاحش في كل ما يؤدي بنا فعله إلى مصير مجهول. وما دام دخلنا في صعود وإسرافنا بلا حدود، فالأمور تسير طبيعية. ولكن ماذا ستكون عليه الحال عندما نتجاوز ذروة الدخل ويبدأ في الهبوط، بينما عدد السكان يتضاعف؟ وكيف نواجه شعبا عودناه على الرخاء والإعانات والهبات واستقدام ما يشاء من الحشم والخدم وأكل ما لذ وطاب من صنوف الطعام المستورَد بأغلى ثمن؟ هذه يا أمة الخير ليست أحلام يقظة، بل هو الواقع والمتوقع واليقين.
ولو كان لدينا تخطيط سليم ورؤية ثاقبة طويلة المدى لما هو قادم، لما سمحنا لأنفسنا أن ندع الميزانية العامة للدولة تتعدى حدود المعقول من مصدر وحيد هو ناضب لا محالة ودون روافد من دخل مستقل. ولا استقدمنا ملايين العمالة الأجنبية للعمل بدلا من وضع أولادنا أمام أمر واقع، هو الكد والعمل المثمر والمنتج. فلسنا في حاجة إلى مشاريع خيالية تتطلب الكثير من المال والعمال على حساب مستقبل الأجيال. فهناك من شعوب الأرض من لديهم القدرة على إيجاد مصادر اقتصادية تستطيع أن تدر عليهم دخلا كبيرا بشكل مؤقت فوق ما هم في حاجة إليه اليوم، ولكنهم يفضلون الاعتدال في الصرف طويل الأجل على الإفراط الذي قد يؤدي إلى انقطاع أو هبوط مستوى الدخل، كما حدث لبعض الشعوب في أزمان مضت. فالإسراف لا محالة يقود إلى نتائج عكسية. ويظهر أننا لم نتعلم كثيرا من واقع الحياة ومن تجارب الآخرين، بل نتصرف وكأننا من جنس آخر لا تنطبق عليه سنن الحياة ولا القوانين الكونية.