رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


هذا هو الاقتصاد الحر فمتى نصل؟

الاقتصاد الحر هو الاقتصاد الذي يرتكز على حرية الأفراد في اتخاذ قراراتهم الاقتصادية بلا وصاية من أحد خاصة الحكومة، ذلك أن الرشد الاقتصادي فطرة إنسانية، والشح سجية في النفس، فأي وصاية على قرارات الأفراد الاقتصادية هي بمثابة زيادة في ذلك الشح النفسي وسيأخذ طابعا جماعيا موجها، ولأنه لا يوجد إنسان أو حتى مجموعة من البشر مهما بلغت حكمتهم لديهم القدرة على توجيه القرار الاقتصادي لمجموع الناس دون الوقوع في أخطاء فادحة، فالوصاية الحكومية على قرارات الأفراد حتما ستجر الاقتصاد إلى اتجاهات خطيرة غير محمودة العواقب. والاقتصاد لا يعود أدراجه إذا ثبت خطأ الاتجاه، بل يخلق مسارات جديدة حتى لو كانت أكثر تطرفا وشحا، فالنفس الإنسانية مجبولة على أن تستفيد من المواقف المتطرفة لتزيد من حظوظها، لذلك فإن أهم حكمة اقتصادية آمنت بها هي ضمان الحرية الاقتصادية وحرية الإنتاج إلا فيما تم تحريمه شرعا من عند الله وحده؛ فالله الذي خلق الإنسان يعلم ما يضره، وهذه المحرمات معروفة في القرآن الكريم وبشكل صريح. الاقتصاد ليس له علاقة بمقتضيات اجتماعية ليس لها أصل متين ولا اجتهادات فقهية ليس لها سند من قرآن أو صحيح السنة، ولا بمواقف سياسية ليست ثابتة. كل شيء ممكن في الاقتصاد وسيخلق الاقتصاد مساراته حتى لو كانت تمر بأسواق سوداء واقتصاديات ظل.
فمثلا صناعة الولايات المتحدة التي كانت محط أنظار العالم، ومضربا للأمثال، وخلقت تسابقا محموما على الدولار لأنه الطريق الأقصر للحصول على ترف المنتجات الأمريكية حتى غدى الدولار ذهب العصر وميزان القوى. وإذا جاءت عبارة "صنع في الولايات المتحدة " على أي منتج، فإنها شهادة ضمان شامل ومبرر كافٍ للسعر وجودة السلعة، لكن الحكومة الأمريكية تطرفت كثيرا في قوانينها وعقدت إجراءات العمل فيها وفرضت الصراعات الحزبية مستويات مرتفعة من الرواتب والضرائب وفقد الكثير من المواطنين حريتهم الاقتصادية. ثم ظهرت النمور الآسيوية من شرق الكرة الأرضية أكثر تحررا وبعمالة رخيصة فتغيرت مفاهيم الاقتصاد العالمي، ولأن الاقتصاد لا يتنفس إلا مع حرية القرار الاقتصادي فقد انتقلت المصانع من الولايات المتحدة إلى ماليزيا وكوريا وتايوان، وأخيرا الصين، حتى أصبحت عبارة "صنع في الولايات المتحدة" لا تكتمل إلا مع عبارة "تم تجميعه في الصين"، ثم أصبح كل شيء يتم تجميعه في الصين، وتذوقت الصين طعم الحرية الاقتصادية فتمادت فيها حتى غدت المصانع الصينية في كل منزل، والجميع يمكنه الاستثمار في الصين، وكل شيء يمكن صناعته في الصين حتى غدت عبارة "صنع في الصين" أشهر عبارة في العالم، وأُغلقت الكثير من المصانع في الولايات المتحدة وتم نقلها إلى آسيا، حيث الحرية الاقتصادية في أفضل حالاتها. ولأن الاقتصاد إذا أجبر على اتجاهات محددة فإنه لن يعود إلى مساره السابق ولا يستمر في مساره الموجه، بل يخلق مسارات جديدة. فقد فقدت الولايات المتحدة قدرتها على قيادة الصناعة العالمية وتعرض الاقتصاد الأمريكي إلى مشاكل هيكلية عميقة، وأدى نقل المصانع إلى الصين إلى خلخلة الطبقة الوسطى وتحولها من رواد أعمال إلى مجرد موظفين في شركات ابتكارات وتمويل وعقارات، بينما المصانع بعيدة في الصين وفقد الاقتصاد الأمريكي قدرته على خلق الوظائف أو جذب الاستثمارات الصناعية؛ وهي أهم نقطة في وصف أي اقتصاد بأنه متعافٍ، ذلك أن فشل الاقتصاد في خلق الوظائف يعني مستقبلا غامضا غير مأمون.
لكن الصينيين اكتشفوا أمرين معا فالسلع الصينية الرخيصة يرتفع سعرها في السوق الأمريكية نظرا لتكلفة النقل وبذلك تفقد الصناعة الصينية كثيرا من بريقها، كما صادف أن قدرة الأمريكيين على الشراء تتناقص خاصة مع الأزمة المالية وتقلص الوظائف، ولأن الأمريكيين وجدوا أنفسهم أمام صناعة لا يمكن قهرها مهما بذلوا من جهد نظرا لمشاكل الاقتصاد الأمريكي العميقة، ومع إصلاحات أوباما للعودة بالحرية الاقتصادية ظهر نموذج جديد ومتميز من المبادرات، وهي عبارة تم تجميعها في الولايات المتحدة، لكنه صنع في الصين. لقد كان انقلابا كبيرا في الصناعة الأمريكية فبعد أن كان الأمريكي يبتكر ويصنع ثم يصدر ليتم تقليد صناعته وتجميعها في الصين وآسيا، أصبح الآن يبحث عن الصناعة والابتكار الصيني والآسيوي ويقوم بتجميعه في الولايات المتحدة. لكن ذلك لا يهم فالاقتصاد هو الاقتصاد وليس له مواقف ثابتة إلا الحرية، بقيت بعض الصناعات الثقيلة مثل صناعة السيارات تقاوم بحدة، لم تزل تحمل عبارة صنع في الولايات المتحدة، لكن ذلك يتم من خلال توجيه الاقتصاد أكثر منه طبيعة اقتصادية، ولا تعرف إلى أين ستذهب صناعة السيارات والسلاح في الولايات المتحدة وهي تخضع لكل ذلك الدعم الحكومي، ولأنني لا أؤمن بالتدخل الحكومي ولو بالدعم فإنني أتوقع أن تتضاءل فرص الصناعات الأمريكية الثقيلة في المستقبل القريب مع دخول الصين وكوريا في مثل هذا النوع من الصناعات بقوة، وهي تتمتع بحرية ومرونة أكبر.
بالعودة لواقعنا الاقتصادي فإنني أتمنى أن يتحرر الاقتصاد أكثر، وأن ترفع الكثير من الوصايات عن القرارات الاقتصادية، وتنتهي قصة الشركات الأولى بالرعاية، وتنقضي سالفة الشركات القيادية، وأن يتمكن المستثمرون من خلق جميع أنواع الشركات وتقديمها بأي سعر، طالما نحن نضمن قواعد أخلاق عامة وفقا للشرع الإسلامي المطهر الذي ضمن حرية اقتصادية شاملة، وفقا لقواعد عامة مشهورة، أتمنى أن نرى عبارات مثل تم تجميعه في السعودية، وأن يتمكن الناس من التصنيع حتى في منازلهم، وأن تنتهي الكثير من التعقيدات غير الضرورية التي تمثل في جوهرها وصاية غير مباشرة على قرارات الناس ورشدهم الاقتصادي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي