متاهات النفس
في هذه المقالات الرمضانية، لفت انتباهي التفاتة الإمام أبي حامد الغزالي لما عبر عنه بضياع نفسه منه أكثر المرات لأنه كان طيلة الوقت - مشغولا - بكل شيء عنها، ومشغولا دائما بغيرها. كما استفاض -رحمه الله - في كتابه - الفرار من المدرسة - ويعني بها رمزية الزعامة، والانغماس في الشأن الاجتماعي، بالحد الذي يشغل الإنسان عن نفسه، وعن صلته بربه وعن راحة ضميره، ثم يتأمل - رحمه الله تعالى. في فقدان العمر مع انتصارات اجتماعية ضئيلة وضيقة بظرفها وزمانها وشخوصها، ثم فقره العظيم أمام الله، مع قلة الزاد. وتداني الطي للكتب.
أن تنسى نفسك هو ألا تشعر بثقل الزمان عليك، أن تتوارى بصيرتك عن أول الضعف فيك، وأول التحول منك، وأول الأفول في قوتك وشبابك وعمرك، أن تنسى نفسك ألا تبصر بوادر النقص فيك بتوالي الأيام والشهور تدريجيا كما يخفت الضوء إلى أن تنطبق العتمة. أن تنسى نفسك فتكون دودة قز تلف نفسها بخيوط الحرير مجنونة بحبه، شرهة في تكوينه، مريضة دون شفاء به، حتى يتباعد عنها الهواء وحس الشمس، فتموت مدفونة في باطنه، وتسقط ضحية له، وقد فاتها فرصة الاستمتاع بكل ذاك الجمع، وفاتها جني كل ذاك الجهد والضنى وقد صار خيوطا من حرير..
كخيوط الثروة، أو خيوط الشهرة، أو خيوط الشهوة، ودوران الطلب التالف للنفس دون توقف، دون أن تمتلئ النفس بحس النعمة ومنعمها ومعطيها. حتى يتم على النفس إبلاس السلب المباغت السريع المفاجئ، الذي لا مرد له ولا دافع عنه. هذه رؤية الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى.
وهذا حق كثيرا ما ننشغل بالأبعدين، وأكثر منه أن نغرق في حروب الجيران التي تهدم بيوتنا بأيدينا، والتي تبذر الضغينة المتقاسمة بين المؤيدين والمعارضين. في كل موقف، ومع كل حنجلة سياسية من مكان قريب، فالسياسية هي متاهة النفس العظمى، وشغلها المقلق لها، المنغص عليها صفوها، مع ضعف الوسيلة فيها، وقلة الحيلة معها.
عاد الغزالي إلى ذاته، في ترك الشواغل الفارغة، وطال مكثه مستريحا على باب بيته، يفتح بابه للفرح الصغير أن يدخله، معرضا بوجهه عن غواية الشهرة التي تشبه - الصدى - الذي لا يتردد إلا في الذات الفارغة، والممتلئة بالهواء الجاف.
في نهاية الأمر لا شيء في الحياة ذو قيمة أكثر منك، إن أعطيتها ما وهبها الله لها، الراحة، والرضا، والسكون وهي غميرة بربها وبقربه وبجواره. وإن جعلتها محور الرضا الدائم .. ومحور الاطمئنان المتصل الذي ينتهي بالنداء المنتظر القادم من عالم الغيب المشتهى بشغف العابد والصابر: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي".
سيحتاج رمضان العظيم المحمل بالهدى وبالرحمة والدلائل والإشارات، أن تُعينه على وظيفته الكبرى، في أن يخرجك من متاهات نفسك المزمنة، أن يخلصك من الشواغل الفارغة، أن يملأك بما يطوي ضجيج الصدى عنك، ويملأك بما يجعلك أكثر معرفة بنفسك أكثر من أي وقت مضى.
ستكتشف إنسانيتك حتى تكون هي أول شيء فيك وآخر شيء منك عرفان الجميل على أبويك، ورحمك، وزوجتك، وكل ولي نعمة أنعمها عليك، وكل فضيلة، عفة، طهر، وشرف إن الفضائل بعضها ينتسب لبعض، وبعضها يستدعي بعضا، وهذه وظيفة رمضان ورسالته، وهذا سره في شهوده، وبركة حضوره، فأنت بعده لست كما كنت قبله. أو هكذا ينبغي أن يكون.