انهيار خطاب قيم الحضارة العربية
منذ عقود وأنا أتابع وأركز على "الوضع الراهن" في البلدان العربية. والدافع لهذه المتابعة الحثيثة له سببان. الأول، بحكم العمل والمهنة حيث عملت صحافيا ومن ثم أكاديميا أقارن وأقارب وأحلل الخطاب ومن خلاله أحاول استخلاص دروس لها علاقة بـ "الوضع الراهن".
والخطاب كما نعرفه ضمن حقل تحليل الخطاب النقدي أساسه اللغة أو أي وسيلة أخرى يستخدمها الناس من أجل الاتصال مع بعضهم بعضا أو التعبير عن أنفسهم ومحيطهم وثقافتهم ومختلف شؤونهم الأخرى.
والعلوم برمتها ولا سيما الاجتماعية دخلت تقريبا منذ منتصف القرن العشرين فيما نطلق عليه "منقلب اللغة" حيث صار للغة دورا أساسيا في تفسير مختلف الظواهر الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتنظيمية وغيرها.
واليوم قلما تلتقي عالما بارزا لا يمنح اللغة دورا بارزا في تكوين هوية أمة أو شعب أو ثقافة ما. اللغة أداة تعكس الواقع الاجتماعي وتسهم في تكوينه من خلال الممارسات والأطر والقوالب الاجتماعية والثقافية، وبدورها فإن هذه الأطر والقوالب تؤثر في اللغة وطريقة استخدامها وتطويعها من قبل الناطقين بها.وقبل نحو عقد من الزمان ولجت في أمور وشؤون تحليل الخطاب وبتوفيق من الله - سبحانه وتعالى - صار لي موطئ قدم متواضع في هذا العلم الذي بدأ يأخذ مداه ويكون جسرا بين مختلف العلوم، حيث صرنا هنا في جامعتنا ندرسه حتى ضمن مناهج الهندسة والطب.
وفي هذا العقد قلما مرت سنة إلا كانت لي منازلة مع الخطاب العربي، وهنا أعني كتابة بحث أكاديمي أستند فيه إلى التحليل النقدي لهذا الخطاب. وفي كل مرة بعد وضع اللمسات الأخيرة على البحث قبيل نشره كنت أقول مع نفسي " الله يستر"، لأن الخطاب كان يؤسس لمواقف إنسانية واجتماعية وثقافية تعكس انحدارا رهيبا في كل القيم الأخلاقية التي قامت عليها الحضارة العربية والإسلامية.
والنصوص التي كنت أختارها كانت تعود إلى قنوات إعلامية ذات تأثير كبير في المجتمع، وإن أخذنا أقوالها على محمل الجد، فإن عدد روادها يبلغ عشرات وعشرات الملايين من الأسر والمنازل، ومن ضمنها كانت أيضا خُطب وأقوال لكبار السياسيين وعلماء الدين.
الخطاب كان يؤشر إلى رفض الآخر وعدم قبوله من خلال تعابير ومفردات لا تهمشه فقط، بل تحرمه وتكفره وتحل دمه وتحث على هلاكه وتجعل منه ومن أفراد المكون الذي ينتمي إليه ملكا مباحا ومشاعا.
عندها كنت أقول مع نفسي هنا وصل الأمر إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه بشر من كره وبغضاء للآخر، لكنني كنت مخطئا حيث إن ما أقرأه الآن وما أقوم بتحليله يتجاوز كل ما كان ممكنا لمخيلتي أن تصوره من شر، حيث يطلق الكل تقريبا، حتى على مستوى الأنظمة وكبار رجال الدين، العنان لخطابه الذي يلغي ويقصي الآخر.
والاضطهاد والعنف يبدآن أول ما يبدآ من خلال المفردة والعبارة والجملة التي نستخدمها لأننا عليها نؤسس أعمالنا، وما الأعمال والأفعال المرعبة التي نسمع ونقرأ عنها ونشاهدها على الشاشات في بيوتنا إلا انعكاس للانفلات الخطابي.
الدول يتم تدميرها والمدن يتم نهبها والمجتمعات يتم تهديمها والأخلاق العربية والإسلامية الحميدة التي كان العالم يحسد العرب عليها يتم سحقها تحت الأقدام في سبيل رفع شأن الطائفية والمذهبية والمخاصصة والفئوية التي أخذت تعصف بالعرب وتحول، لا بل حولت بعض دولهم ومدنهم ومجتعاتهم إلى هباء منثور "والله يستر" إن في العراق أو سورية أو اليمن أو فلسطين أو الصومال أو ليبيا أو مصر أو لبنان أو السودان أو...أو .. والحبل على الجرار "والله يستر من القادم".