«فقه السياق»
من أوائل الأحكام القطعية أن التشريع كله يعود إلى حكم الشارع المتمثل في الكتاب والسنة ومعلوم أن هذا المعنى لا ينافي دليل الإجماع المجزوم بحجيته عند انعقاده؛ لأن الإجماع لا يكون إلا على مسألة أتى بها نص، فحين نقرأ التشريع من هذا الابتداء الأول «نصوص الكتاب والسنة» فإن ثمة جملة من المقدمات العلمية لهذه القراءة يأتي في أوائلها اعتبار «فقه السياق» عند تحصيل الحكم من النص، وهذا يقصد به أن النظر الذي يعتمد صاحبه مفرد الكلمات دون اعتبار للسياق، لا يمثل وجها حكيما في الفقه، وترى في هذا العصر بعض الباحثين في معانٍ من العلوم الشرعية غلب عليه تتبع المفرد من الكلمات دون استقراء لفقه السياق الذي ينتظم تحته: سياق النص، وسياق الباب في الشريعة، وسياق النصوص باعتبار اجتماعها، فإن ثمت حقيقة بينة عند الأصوليين أن العام يرد عليه التخصيص، والمطلق يرد عليه التقييد، وهلم جرا مما يقتضي أن تبنى ملكة البحث والنظر فضلا عن الاجتهاد الذي هو أعلى في المقام على اعتبار أثر السياق في الحكم ودرجته، فإن رتب الأحكام التي عبر عنها الأصوليون بالأحكام التكليفية أو الأحكام الموضعية هي رتب مختلفة، وفي المثال فإنك ترى أن الأمر وإن قلنا إن الأصل فيه الوجوب كما هو رأي جمهور أهل الأصول فإنه يرد بلا جدل متحقق على معنى الاستحباب مع ثبوت صيغة الأمر كجملة مفردة في النص، وتجد أن السياق بأحد صوره يخفف الحكم عن الوجوب إلى الاستحباب، بل يأتي أمر ويراد به الإباحة، وهذا اعتباره يعود لجملة مؤثرات في فقه درجة الحكم، السياق من أخصها، والمقصود في هذه القراءة أن كل ناظر في أحكام الشريعة يجب له أن يكون فقيها في استقراء السياق حتى يتحصَّل له فقه مناسب يتفق ومقاصد الشريعة، فإن الشريعة نظام متصل من حيث الدليل وفقه الدلالة وعلل الأحكام ومآلات الحكم، ومن أخذ الشريعة بنظر مفرد قاصر لم يعتبر معه هذه المقاصد تحصل به سقط كثير توهمه حكما من الشريعة وهو مباعد عن أثرها، وليس كل من استدل لرأيه لزم أن يكون الدليل مناسبا لحكمه، فإن من موارد السقط أن يتوهم من يستدل بنص محفوظ أن الدليل مطابق للمدلول عليه وهذا يقع فيه فوات كثير، والقارئ لأحكام الفقهاء يجد أن عامة الرأي يورد عند أصحابه عليه دليل صحيح من حيث الثبوت لكنه يتأخر من حيث الدلالة على محل الحكم، وإذا كان كثير من غير أهل الحديث يقع عندهم ما هو من الفوات في معرفة الصحيح وغيره في الرواية، فكذلك يقع لغير أهل الفقه فوات في فقه الدلالة ومناسبة الدليل للمدلول، والفقه المراد هنا هو ملكة الفقه العام، والله الهادي.