التشغيل الذاتي والتعاقدي للمستشفيات ..الإيجابيات والسلبيات
باختصار أفضلية التشغيل الذاتي على التشغيل التعاقدي والعكس تعتمد على:
ـ التوجه الأول: من يريد حلولا سريعة (فالتشغيل التعاقدي في هذه الحالة أفضل)
ـ التوجه الثاني: من يريد حلولا طويلة الأمد وجذرية (فالتشغيل الذاتي أفضل).
لذا فإنني أجد أن التشغيل التعاقدي لا يتناسب مع الوضع الحالي للمجتمع السعودي والذي يمر بمرحلة بناء وتطوير وتدريب للكفاءات الوطنية. كما أن تأهيل الكوادر الوطنية المؤهلة للعمل في القطاع الصحي من ضمن أهداف الدولة الإستراتجية. فكيف يمكننا تحقيق هذا الهدف مع تسلم إدارة تشغيل المستشفيات لشركات تسعى جاهدة من أجل تقليل تكلفتها التشغيلية وإنهاء مدة العقد بأقل التكاليف؟
التشغيل التعاقدي يتم عبر طرح مناقصة تعتمد أساسا على العطاء الأقل إضافة إلى اعتبارات أخرى كشروط وبنود للمناقصة. قد يكون طرح المناقصات وسيلة فاعلة وعملية في المشاريع قصيرة الأمد كالمشاريع الإنشائية ومشاريع الطرق وغيرها. لكن طرح المناقصات للمشاريع التشغيلية ذات الطابع الحيوي، كالخدمات الصحية, فقد لا يكون قرارا حكيما بسبب صعوبة تقييم جودة الخدمة بشكل دقيق. فتشغيل المستشفيات عبر طرحها في "مناقصات"لا يمكننا تقييمها لأنها في الغالب خدمات غير قابلة للقياس بشكل مخرجات محددة. فمهما وضعت من شروط قبل طرح المناقصة تظل شروطا ناقصة. إضافة إلى ذلك يظل تطبيق شروط المناقصة ليس بالأمر السهل نظرا لعدم تأهيل معظم شركات التشغيل التعاقدي في المجال الصحي. كما أن الواقع يخبرنا بتدني مستوى الخدمة لمستشفيات وزارة الصحة التي تم تشغيلها عبر مناقصات تعاقدية لدرجة أن البعض من تلك المستشفيات لا يمكننا التعامل معها على أنها تقدم خدمات صحية متوسطة. ومن هنا فإن وزارة الصحة قد أحسنت بتبني سياسة التشغيل الذاتي لمستشفياتها من أجل رفع مستوى الخدمة الصحية المقدمة عبر مستشفياتها.
من المؤسف جدا اعتقاد البعض أن تشغيل المستشفى لا يختلف كثيرا عن تشغيل مدينة سكنية أو مبنى إداري. لكن هذا البعض نسي أو تناسى أن أولويات الخدمة وحساسيتها تختلف، فمثلا المدن السكنية يمكنها تحمل انقطاع الماء أو الكهرباء أو ضعف التكييف لبضع ساعات. لكن انقطاع الكهرباء أو الماء ولو لبضع دقائق قد يتسبب في وفاة مريض أو تلف لعينات الدم وخلافه. فمعادلة الخدمة في القطاع الصحي تختلف عن غيرها. علاوة على ذلك فإن فترة ثلاث سنوات تعاقدية ليست بالفترة الكافية لتشغيل المستشفيات بشكل مميز. فالأشهر الثلاثة الأولى والأشهر الثلاثة الأخيرة فترة انتقالية يتأرجح مستوى الخدمة فيها بشكل كبير.
كما علينا تحديد الدور المنوط بالمستشفيات القيام به. فهل توقعاتنا من المستشفيات فقط تقديم رعاية صحية؟ أم أن تأهيل الكوادر الطبية المؤهلة دور آخر عليها القيام به؟ من المهم أن يكون جزء من نشاطات المستشفيات المشاركة في تأهيل الكوادر البشرية الوطنية. فتأهيل الكوادر الوطنية بما فيها الكوادر الصحية جزء من عملية رفع الجودة الصحية عبر رفع مستوى الكوادر الطبية والطبية المساندة والفنية والإدارية لديها. هذا النوع من الاستثمار على الرغم من أهميته فإن تأثيره الإيجابي في مستوى الخدمة قد لا يعود بالنفع على المستشفيات إلا بعد فترات طويلة لا تتناسب مع عقلية أصحاب التشغيل التعاقدي.
إن الالتزام بالمعايير الصحية المعتمدة مكلف جدا ولا يمكن التأكد من تنفيذها إلا عبر فرق صحية مؤهلة تأهيلا عاليا تقوم بدور المراقب للجودة الصحية. فإذا كانت الجهات الرقابية من أضعف القطاعات الحكومية، على الرغم من محدودية المهام المنوط القيام بها، فكيف نتوقع أن يكون مستوى الرقابة في القطاع الصحي فاعلا مع أن القطاع الصحي يتطلب تأهيلا عاليا؟ فمثلا إذا كان مستوى الرقابة على المطاعم والأجهزة والأدوات المقلدة دون مستوى الطموح "على الرغم من سهولتها"، فكيف نتوقع نجاحها في تقييم خدمات تتطلب الكثير من المهارات والعلم والتأهيل؟
التجارب العملية تخبرنا بأن بعض الخدمات كالخدمات التشغيلية والصيانة التي تطرح عبر مناقصات حكومية تقدم كوادر بشرية أقل كفاءة من الشروط المتفق عليها. فكيف نتوقع من الشركات التعاقدية لتشغيل المستشفيات أن تؤدي خدمات مطابقة للموصفات في تخصصات قد يكون بعضها نادرا؟
قد يقول قائل إن النظام يتيح مبدأ معاقبة الشركات وإنذارها على تقصيرها وفرض خصومات من أجل إجبارها على الالتزام بالمواصفات المكتوبة؟ هذا الكلام صحيح لكن في نهاية المطاف فإننا سندفع قيمة تعطل الخدمة المراد منا تقديمها، فيكون همنا الأول كيفية إلغاء عقد هذه الشركة أو تلك أو معاقبتها على تقصيرها بدلا من تركيزنا على كيفية تقديم خدمة صحية تليق بأبناء هذه الوطن. فالعقاب على التقصير من سوء الخدمة ليس هدفا أو غاية، بل وسيلة من أجل حفظ الحقوق المالية.
كما أن سوء العلاقة بين موظفي الشركات التعاقدية مع إدارتهم بسبب تأخر صرف مستحقاتهم يؤدي إلى تدني الخدمة وعزوفهم عن تأدية عملهم بشكل مرضي. فمعاناة السعوديين العاملين لدى شركات التعاقدية من تأخير في صرف الرواتب وضعف في التأهيل وسوء المعاملة محور آخر لمشكلات شركات التشغيل التعاقدي. لذا فإن على وزارة المالية تشجيع القطاعات خصوصا القطاعات الصحية عن طريق وضع خطط تساعد المستشفيات على تبني التشغيل الذاتي بشكل كامل. فوزارة المالية إذا كانت تهتم برفع مستوى الخدمة ودعم تأهيل الكوادر الوطنية فإن عليها حث القطاعات الصحية من أجل دعم التشغيل الذاتي. فالميزانيات الصحية المخصصة تؤثر في القرارات الصحية بين التشغيل الذاتي أو التشغيل التعاقدي.
ختاما علينا الاتفاق على أن هناك خدمات يمكن قياسها بشكل ملموس Tangible Service كخدمات الاتصالات، لكن هناك خدمات أخرى كالخدمات الصحية غير ملموسة وحرجة ومصيرية ومكلفة ولا يمكن قياسها بشكل صحيح ما يصعب التعامل معها على ضوء مناقصة حكومية.