الشبكات الاجتماعية تؤجج صراع الآباء والمراهقين الأبدي

الشبكات الاجتماعية
تؤجج صراع الآباء والمراهقين الأبدي
الشبكات الاجتماعية
تؤجج صراع الآباء والمراهقين الأبدي

قبل أن تصبح منصات الوسائط الاجتماعية أكبر مدونات لمشاعر القلق والتشاؤم لدى المراهقين، كان هذا الشرف من نصيب رواية جيه دي سالينجر بعنوان "الحارس في حقل الشوفان" (1951).
وسط جميع أشكال التعبير عن مشاعر القلق والتشاؤم، يعبر الراوي في رواية سالينجر، التي تعتبر أبلغ تعبير عن الدخول في سن الرشد، عن قلقه من معضلة كانت منتشرة في الماضي تتعلق بالهواتف والأهل: "لم أستطع أن أجازف بالاتصال بأختي لأنها كانت مجرد طفلة صغيرة وستكون في ذلك الوقت في الفراش، ناهيك عن أنها لن تكون قريبة بأي شكل من الأشكال من الهاتف. فكرتُ في أن أغلق السماعة إذا رد والدي أو والدتي، لكن هذا لم يكن لينجح أيضاً. فسيعلمان أن المتكلم هو أنا. أمي تعلم دائماً أن المتكلم هو أنا. فلديها قدرة على قراءة أفكار الآخرين".

#2#

كانت هذه الفقرة تخطر على بالي باستمرار في منتصف التسعينيات، حين بدأ عدد من أصدقائي في المدرسة يحملون معهم الهواتف الجوالة. تصلح هذه الأجهزة لتعمل على تجنب الأهل، بحيث تتيح لك الاتصال المباشر مع أخ أو صديق في غرفة نومه أو في الساحة الخلفية، على نحو يتجاوز الخط الأرضي الموجود في الصالة.
لكن القوة ذهبت أيضاً في الاتجاه المعاكس. (على حد تعبير مفضل لأحد أصدقائي: "نعم يا ماما، أنا في الحافلة ولستُ تحتها"). ربما يبدو ذلك غريباً الآن، لكن عدداً من أوائل الذين تبنوا الهاتف ممن أعرفهم كانوا في الواقع يكرهون أن يحملوا الهاتف معهم أينما ذهبوا. هذا الحمل الموجود في جيوبهم كان بمثابة حبل سُري لا سلكي.

صراع المراهقين وأهليهم

"الأمر معقد" عنوان كتاب جديد حول المراهقين والتكنولوجيا الرقمية، من تأليف دانا بويد، وهي باحثة في الإعلام الرقمي. يضع الكتاب عالم اليوم من الهواتف الجوالة والآيباد وأجهزة اللابتوب في سياق هذا الصراع الأبدي بين المراهقين وأهليهم. وبعملها هذا تضيف بويد كثيرا إلى فهمنا للجيل الشاب الذي يكون أفراده متصلين بصورة فائقة ويجمعون بين كونهم مستهلكين ومنتجين – وهم مجموعة من الناس غالباً ما يعمل سلوكهم على وضع الآباء والمدرسين والمستثمرين في حيرة جماعية. مثلا، في الشهر الماضي فقط، ونتيجة لاستحواذ "فيسبوك" على "واتس ـ أب"، خدمة التراسل الفوري، مقابل 19 مليار دولار، شهدنا منظراً مذهلاً لمحللي سوق الأسهم وهو يحاولون مرة أخرى التغني بهذه الصفقة على أنها من مختصي ثقافة الشباب.
لكن المؤلفة ليست بحاجة إلى التغني أو التحايل، فهي تعمل باحثة لدى "مايكروسوفت" وتدرِّس في جامعة نيويورك وفي مركز بيركمان للإنترنت والمجتمع في جامعة هارفارد. وقد جعلت من اختصاصها أن تفهم ما يجري حين تصطدم وسائل الإعلام الجديدة مع البلوغ. ويأخذ الكتاب عنوانه من أحد بنود وصف العلاقات الشائعة في "فيسبوك"، (متزوج – أعزب – مطلق – الأمر معقد). وهو يستند إلى عدد من المقابلات ودراسة علمية للثقافة والمجتمع، بهدف وضع أصوات الشباب الصغار وسط حلبة المسرح واختراق العقلية الجدلية كثيرة النقيق بين متوسطي العمر، التي تشكل معظم الأدبيات حول الموضوع. والمشاركون المراهقون في استبياناتها لم يكونوا أقل نقيقاً، كل ما في الأمر أن نقيقهم كان يدور حول مشكلة الآباء المزعجين، وكأنما يقومون ببروفات حول جلسات العلاج النفسي التي سيدخلونها في المستقبل.
تقول إيمي، 16 عاماً، من عائلة من العرقين الأبيض والأسود من سياتل: "لا تسمح لي أمي بالخروج من البيت كثيراً، لذلك عملياً هذا هو كل ما أقوم به، أن أفتح برنامج ماي سبيس وأتحدث إلى الناس وأرسل رسائل نصية وأتحدث على الهاتف، لأن أمي لديها دائماً سبب مجنون لإبقائي في البيت".
وتعتقد بويد أن هذا النوع من الحماية المتشددة من الأهل عمل بصورة أساسية على تغيير المراهقين الأمريكيين، وهو انقلاب بدأ أثناء العقد الذي سبق الوسائط الاجتماعية أو نحو ذلك. وحين يقترن هذا مع نظام مدرسي قائم على النتائج، ونشاطات بعد المدرسة المنظمة بدقة، فإن هذا لا يزيد على كونه مادة توضع في السيرة الذاتية واللوائح ضد التجمع في مراكز التسوق والمتنزهات، وبالتالي تقول المؤلفة "إن الشباب الصغار أخذوا يُحرَمون ببطء من كونهم عنصراً فاعلاً، ومن وقت الفراغ، والقدرة على الالتقاء مع الأصحاب في الأماكن العامة، وهي من الأمور الضرورية عند بلوغ سن الرشد". على هذه الخلفية، لا تعتبر الوسائط الاجتماعية نوعاً من التلقيم اليسير من المخدرات الرقمية بقدر ما هي صمام أمان للحياة المقيدة. وبالنسبة إلى بويد، هذه دراما تحرك كثيراً من التصاق المراهقين بالأجهزة. وتقول: "معظم المراهقين ليسوا مدمنين على الوسائط الاجتماعية، والواقع أنهم إن كانوا مدمنين على شيء، فإنهم مدمنون على بعضهم بعضاً".

جيل التطبيقات

الأهل الذين يبالغون في حماية أبنائهم وبناتهم يتلقون الانتقاد في كتاب حديث آخر حول الشباب في الوسط الرقمي، هو "جيل التطبيقات"، من تأليف هوارد جاردنر، من جامعة هارفارد، وكيتي ديفيز، من جامعة واشنطن. يجادل المؤلفان بأن جميع عمليات الإدارة الدقيقة المذكورة والمبالغة في الحماية تعني أن "الآباء عن غير قصد منهم يشجعون السلبية بين أطفالهم ويحولون بينهم وبين تطوير إحساس مأمون بالاستقلال الذاتي". لكن في حين إن بويد تعتبر الوسائط الاجتماعية علاجاً لهذه الأمراض، يرى جاردنر وديفيز أن بعض الجوانب في السلوك الرقمي أقرب إلى كونها أعراضاً – خصوصاً الاعتماد المتزايد على التطبيقات التي تزيل المخاطر اليومية، مثل احتمال الضياع، أو الانزعاج المحتمل من الدخول في محادثة فعلية.
بطبيعة الحال، إزالة الخطر أثناء المرحلة غير المستقرة من الحياة يمكن أن تعتبر من أهم الأسباب التي نجد فيها المراهقين "مصعوقين" إلى هذا الحد بالتكنولوجيا في المقام الأول – سواء كان ذلك مخاطرة الانخراط في تعريف هويتهم الذاتية، أو ابتعادهم عن آبائهم، أو إثارة الإعجاب في الآخرين من الجنس الآخر، حين يكون الوجه مليئاً بالنمش.
ويرى جاردنر وديفيز أن الحياة الرقمية تجعل الحماية المفرطة أسوأ من قبل. وكما فهم تماماً أصدقائي أيام المدرسة الذين كانت لديهم هواتف، فإن القوة التي تمنحها التكنولوجيا الشخصية تعمل باتجاهين – زيادة التحدي من حيث تسليح الأهل بالأدوات لتصغير أطفالهم أكثر حتى من قبل. وبالتالي، بعض المراهقين والراشدين الذين قوبلوا في استبيانات لكتاب "جيل التطبيقات" يلاحظون أنه ليس من النادر أن يكون طلاب الجامعات متمكنين تكنولوجياً من الاتصال بأهلهم عدة مرات في اليوم. ويقول لهما مدير مخيم "إن الأهل غالباً ما يتجاهلون سياسة المخيم التي لا تسمح بالتكنولوجيا من خلال تهريب الهواتف وكأنها من الممنوعات، من أجل إرسال رسائل نصية خلسة أو الاتصال بالبيت سراً". وهذا قبل أن ننظر في موضوع الآباء الذين يختبئون في "فيسبوك". وأحد الذين قوبلوا وَصَف هؤلاء الآباء والأمهات المتمكنين من التكنولوجيا بأنهم "أهل الطائرة المروحية".
وبالنسبة لبويد، دفاع المراهقين ضد هذه الطائرات المروحية السوداء "بلاك هوك" من الأهالي الذين يهبطون عليهم فجأة، يؤدي إلى إعادة تشكيل مثيرة للاهتمام بموضوع الخصوصية. ويحب مختصو الإعلام أن يصفوا الشباب الصغار بأنهم يسعون بتهور للدعاية وأنهم تنازلوا عن خصوصيتهم في مقابل الصور الشخصية مع الآخرين والتغريدات حول مدربيهم. باختصار، لقد غامروا بالخروج إلى أبعد مسافة ممكنة من النصيحة الختامية التي جاءت في رواية "الحارس في حقل الشوفان": "إياك أن تقول أي شيء لأي شخص".
وعلى العكس، يبدو المشاركون في استبيانات بويد أنهم يغارون بشدة على خصوصيتهم. لكن بدلاً من محاولة تجنب المراقبة على الإنترنت من الحكومات والشركات، يشعرون بقلق أكبر بشأن تجنب آبائهم وأمهاتهم ـ لعله أمر خطر على بالك. والأهم من هذا أنهم لا يفعلون ذلك من خلال التلاعب بالإعدادات التي تتغير باستمرار لحماية الخصوصية، أو الانتقال إلى منصات أحدث بعيدة عن عيون الآباء، وإنما من خلال الاختباء في وضح النهار. مثلا، تشير بويد إلى ما يسمى "التغريدات بين السطور" – وهو استخدام رموز تحتية أو إشارات مشفرة تجعل الرسائل بلا معنى لمن هم في الخارج. وقد درست أحد التعليقات المنشورة على موقع اجتماعي، وهو يشتمل على كلمات أغنية رمزية معروفة يمكن بسهولة أن يساء فهمها من قبل الآباء الذين يتنصتون على أبنائهم: "يدرك المراهقون أن حصر الوصول إلى المعنى يمكن أن يكون أداة أقوى بكثير في تحقيق الخصوصية من محاولة حصر الوصول إلى المحتوى نفسه". وهي تشَبِّه ذلك بالمشاهير الذين لديهم خبرة بالتكنولوجيا، والذين يكشفون عن مجموعة من نتف الأخبار ليخفوا المواد المهمة فعلاً.
ولعل بويد تنتبه أقل مما يجب إلى شعبية شبكات التراسل مثل "واتس ـ أب" و"سناب تشات"، التي من الواضح أن نموها السريع بين المراهقين يمثل حركة غوص واضحة تحت مستوى رادار الأهل. لكنها أكثر اهتماماً بالمبادئ من اهتمامها بمنصات معينة. ويشتمل كتاب "الأمر معقد" على نظرة عميقة لأبحاثها في الخروج الجماعي للمراهقين من "ماي سبيس" إلى "فيسبوك"، وهو ما يقوم المشاركون في الاستبيان بإعطائه كمقدمة، لها دلالتها، لتبرير تحولهم بكلمات مثل: "الواقع أني لا أرتاح للعنصرية، لكن ...".
من جانبهما، لدى جاردنر وديفيز شكوك حول المدى الفعلي للتمكين الذي توفره التطبيقات الجديدة للتراسل. وهما يتأسفان على الميل الحديث للتنقل بين عدة محادثات ورسائل فورية، ما يجعل الصغار "أكثر تركيزاً على الفعل من تركيزهم على الوجود" بحيث يحرمون أنفسهم "من الوقت والمكان اللازم لتشكيل أفكارهم ورغباتهم".
وجاردنر عالم نفس مشهور ينتقد منذ زمن طويل المناهج السلوكية التي هي عبارة عن تعبئة الفراغات في التربية. ومع أن فكرة التطبيقات باعتبارها مجازاً للوضع الإنساني الرقمي تبدو من قبيل المبالغة أحياناً، إلا أنه هو وديفيز يؤسسان لحجة قوية مفادها أن الاعتماد على التطبيقات له أثر اختزالي على الشباب الصغار. ويستشهدان بالكاتبة كريستين روزن، معربين عن قلقهما من أن هذا ربما يؤدي إلى "الكفاءة النهائية - بمعنى أن يشهد الشخص أن هناك سيطرة على حاجاته ورغباته وتقلبات تجاربه المستقبلية الممكنة".

"المستقبل العاري"

وحين تقرأ كتاب "المستقبل العاري"، ربما تظن أننا وصلنا بالفعل إلى هناك. في هذا الكتاب يتحدث المؤلف باتريك تاكر، وهو صحافي مختص بالتكنولوجيا، عن كيف أن كميات البيانات التي تتوزع عن طريق حياتنا الرقمية يمكن استخدامها لتوليد التوقعات، والتكهن بمدى القوة التي يمكن أن يكون عليها تمكين هذا السحر الخوارزمي حين يتم تحويله ديمقراطياً ويوضع في أيدي الأفراد بدلاً من المؤسسات والحكومات.
وسواء كان تفاؤله مبرراً أو غير ذلك، يوضح لنا كتاب تاكر الشيق مدى قيمة كل هذه المعلومات الشخصية. مثلا، يروي الكتاب عملية الارتباط التي تمت في السنة الماضية بين "سامسونج" ومطرب الراب جاي زي، التي بموجبها وزعت "سامسونج" مليون نسخة مجانية من ألبوم للمطرب إلى المستخدمين لتنزيله على شكل تطبيق خاص. وقد أعطى هذا التطبيق إلى "سامسونج" إمكانية الوصول إلى البيانات من كل جهاز من أجهزة الهاتف.
هذا المثال تذكرة بأن المنتج الاقتصادي الذي يباع لا يكون في الغالب التطبيق، أو الشبكة الاجتماعية، أو حتى الألبوم، وإنما المستخدِم. هذا بُعدٌ للحياة الرقمية غائب عن الكتابين السابقين. منصات الحياة الرقمية والتطبيقات ليست مجرد منافع لتسهيل "الارتباط" أو أدوات تسهل متاعب ومشاق المراهقة. إنها آلات تجارية لاستخلاص البيانات التي تبيع معلومات مستخدميها إلى المعلنين. وتقر بويد بهذا الحذف من كتاب يستحق بخلاف ذلك أن يعامَل على أنه الكتاب الرسمي المعتمد حول الموضوع حتى فترة لا بأس بها. وهي تشير إلى أن الشباب كانوا هدفاً لعمليات التسويق المتطورة قبل الإنترنت "بدلاً من انتقاد هذا العامل الحركي، مثلما فعل كثير من الباحثين الممتازين، يأخذ هذا الكتاب قيمته الاسمية خلافاً لذلك، لأن هذا هو العالم الوحيد الذي يعرفه المراهقون اليوم".
لكن هذا هو نوع من تجنب سؤال مهم. لم يعد كافياً أن نتساءل ما إذا كان الشباب الصغار يتم تشكيلهم بالتكنولوجيا الرقمية أم أنهم هم الذين يشكلونها، حين يتم تشكيل المراهقين والتكنولوجيا بصورة متزايدة من قبل إلزام تجاري يقضي بتحويل المستخدمين إلى بيانات قابلة للبيع بسهولة. وبحسب المثل الحديث، تعلم "جوجل" عنك أكثر مما تعرفه أمك عنك – حتى وإن كانت قادرة على قراءة الأفكار.

الأكثر قراءة