دبلوماسية الإيثانول!
عودة قضايا الطاقة البديلة إلى الأضواء إثر التحرك الرئاسي لجورج بوش في جولته الأمريكية اللاتينية مطلع هذا الشهر، لم تخل من مفارقات وتحويرات كادت تقضي على الهدف الأساسي منها، وهو تسليط الضوء إن لم نقل توفير بعض البدائل للوقود الأحفوري، خاصة مع تنامي الإحساس بضرورة عمل شيء إثر احتلال قضايا التغير المناخي وتوجيه أصابع الاتهام إلى مصادر الطاقة التقليدية أنها وراء كل هذه المتاعب.
أولى المفارقات أن الأمر انتقل إلى دائرة الصراع الذي كاد يصبح شخصيا بين بوش والرئيس الفنزويلي هيوجو شافيز، الذي ابتدر من جانبه جولة لاتينية مضادة بهدف محو أي آثار إيجابية يمكن أن تنجم عن زيارة بوش.
زيارة بوش في واقع الأمر تعتبر تحولا في علاقته مع القارة التي تعتبر البوابة الخلفية للولايات المتحدة. ففي نظر الكثيرين أن الإدارة الحالية عملت عن قصد أو دونه على تبديد إرث قرابة ثلاثة عقود من الزمان من خلال الرؤساء رونالد ريجان عبر دورتين رئاسيتين، جورج بوش الأب، وبيل كلينتون في فترتين، ومن خلال سياسة هدفت إلى دفع التحولات التي تعيشها القارة باتجاه الديمقراطية واقتصاد السوق.
أولويات إدارة بوش لم تتسق مع ذلك الإرث ربما كما أوضح البعض أن ذلك يعود إلى هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ومن ثم تغير الأولويات لدى الإدارة التي أصبحت مهمومة بقضايا مكافحة الإرهاب. لكن إحدى نتائج ذلك التغير الاتجاه إلى وضع العصي في دواليب الرؤساء الذين لا ترضى عنهم واشنطن، مثل المحاولات المتكررة لإبعاد شافيز عن سدة الرئاسة الفنزويلية. ولهذا فليس غريبا أن تعيش القارة حالة من النهوض القومي يقوده شافيز مستفيدا من قدرات بلاده التي عضدتها أسعار النفط المرتفعة خلال الأعوام الماضية. ولهذا فحتى دا سيلفا البرازيلي، الذي أمل بوش أن يستميله إلى جانبه لا يخفي ميوله اليسارية، وأن علاقته مع واشنطن لن تكون على حساب علاقته بكراكاس، بل إنه يسعى إلى تمييز نفسه بالقول والإيحاء أنه ورغم مؤهلاته اليسارية يبدو قادرا أكثر من شافيز على التعاطي مع خصوم أيديولوجيين مثل بوش.
على أن الأهم في جولة بوش والاتفاقيات التي أبرمها بهدف تسريع التحول إلى استخدام الإيثانول أنها تظل مواجهة بحوائط من صنع واشنطن نفسها، وعلى رأسها الضرائب المفروضة على أي واردات للإيثانول من البرازيل. وأوضح بوش بجلاء أنه ليس من الوارد تغيير موقفه في هذه القضية. وكأن واقع الحال يقول إنه في الإمكان توسيع السوق وبروز منتجين جدد، لكن فتحها أمام المشترين أمر آخر، لسبب بسيط يعود إلى ضغوط اللوبي الزراعي القوي في الولايات المتحدة الذي يعطيه الساسة اعتبارا وأهمية كبيرين.
وليس أدل على هذا من أن خطة الطاقة الوطنية التي عمل عليها بوش منذ دخوله البيت الأبيض لأول مرة قبل ست سنوات، وتمت إجازتها بصورة نهائية قبل عامين، حفلت بكميات ضخمة من الحوافز لم تستثن النواب الديمقراطيين ولا حتى شركات النفط العاملة في المجال التقليدي. وكان لافتا للنظر أن من الذين صوتوا إلى جانب تلك الخطة الزعيم الديمقراطي توم داشيل، زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ وقتها، لسبب بسيط يتعلق بالحوافز المقدمة لمزارعي الذرة الشامية في الدائرة الانتخابية لداشيل في ولاية داكوتا الجنوبية.
جولة بوش الهادفة إلى الترويج لمصادر بديلة للطاقة اصطدمت في نهاية الأمر بواقع السياسة الأمريكية المحلية القائم على المصالح والتوازنات. وبمثل ما دفعت هذه المصالح باتجاه الحفاظ على الوضع الراهن واتباع استراتيجية توجيه أصابع الاتهامات إلى المنتجين أو منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" تحديدا على أساس أنها أسّ المتاعب التي تعانيها، إلا أن تلك المصالح تظل أقوى وأعمق وأكثر تجذرا من قصر متاعبها على "أوبك" أو النفط العربي وحده، فها هي تتمترس خلف امتيازاتها والإعفاءات الضريبية التي تحصل عليها من الحكومة الفيدرالية حتى تجاه دولة جارة مثل البرازيل يفترض أن توفر لها بديلا يمكن أن يجعلها تقلل اعتمادها على النفط الأجنبي والشرق الأوسطي تحديدا، المتهم بكل ما تعانيها الولايات المتحدة سياسة أو اقتصادا، بل إن خفض هذه الضرائب يفترض أن يساعد على التحولات التي تبشر بها واشنطن.
المفارقة أن الانتقاد الرئيسي لخطوة بوش وتناقضها جاء من جهة غير متوقعة، وهي بول وولفتز رئيس البنك الدولي الحالي وأحد أعمدة الإدارة حتى قبل عامين. وولفتز الذي طور اهتمامات بقضايا الطاقة والتغير المناخي رأى في مواقف واشنطن عقبة أمام إحداث تغير في هذا المجال، وكأنه بهذا يعيد تكرار مسيرة سلفه روبرت ماكنمارا مهندس حرب فيتنام، الذي انتهى به المطاف في البنك الدولي وسعى جهده إلى بناء سجل له يقوم على التركيز على التنمية في الدول النامية .. فهل هي صحوة متأخرة؟