كـذب

الكذب الوجه الآخر للخداع والأب الروحي للنصب والدجل والاحتيال غير أن للكذب وجهه المشرق ممثلا في المجاملة التي تدهن سير العلاقات الاجتماعية ليسلس سريانها. الفن أيضا نوع من الكذب باعتبار الفن نشاطا مختلقا من الخيال، لكنه كذب صادق فهو وإن كان لا يقدم لنا الحقيقة والواقع حرفيا ونمطيا وفعليا إلا أنه يخلق عوالم موازية لعالمنا تحاكي الطبيعة في تعبيرها عن نفسها، سواء في استعراض مفاتنها وروائعها أو كوارثها ومآسيها.
والكذب خصيصة بشرية، فما من أحد لا يكذب، وإن اختلفت الأسباب والدوافع، فقد نكذب بدافع المجاملة والتجمل، أو لنتحلل من عهد أو ميثاق أو التملص من التزام أو موعد أو ضيف ثقيل، وقد نكذب لنغطي على جهلنا أو أخطائنا أو عيوبنا، وقد نكذب بدافع الحرص على حماية الذات أو مَن نعزهم، وقد نكذب بغرض جلب فجاءة الإدهاش أو لنعاظم الفرحة، وقد نكذب للتربص والمكيدة.. إلخ.
على أن أسوأ أنواع الكذب هو ما ينطوي على النذالة والخسة والغدر أو ينتهي إلى الخيانة. ولعل هذا المعني خاصة هو ما أرادنا الكاتب النمساوي أرتور شنيتسلر أن ندينه ونبصق عليه في قصته "موت الأعزب" فقد ترك هذا العازب اللعين رسالة قبل دقائق من موته إلى خمسة من أصدقائه لم يبق منهم أحياء سوى ثلاثة، هم: طبيب وكاتب وتاجر حضروا بعيد وفاته عندما استدعاهم خادمه، قال لهم فيها: "إنكم مجتمعون حول سرير موتي وعلى أهبة استعداد لقراءتها، إذا ما كانت لا تزال موجودة، فقد أقرر تمزيقها لأنها لن تفيدني شيئا بل ستسبب لكم ساعات قلق كريهة، هذا إذا لم تسمم بشكل قاطع حياتكم "وأخبرهم أنه كان على علاقة عاطفية مع كل زوجاتهم وأنه عاشرهن طوال تلك السنين التي صحبوه فيها واستقبلوه مرارا في منازلهم.. ثم برر بوقاحة اعترافه بالقول: "عدم مغادرة هذه الدنيا وعلى عاتقه أوزار من الأكاذيب" (!).
ترى هل ثمة كذب أشنع من هذا؟ يوهم أصدقاءه بنزاهة علاقته بهم سنين طوالا بينما هو يخونهم مع زوجاتهم سادرا في نذالته الفترة كلها فوق أرض الكذبة وتحت سقفها، ثم فاتحا بحروف رسالته الوضيعة الستار، على الدرك الأسفل من الانحطاط الخلقي، لأن هكذا مصارحة تشويه قذر حقير للعلاقات الإنسانية وتشفِّ مريض من الاستقامة والحياة السوية.
على النقيض من ذلك، ضرب جان بول سارتر مثلا مغايرا، حيث تحكي قصته "الجدار" عن ثلاثة أشخاص من المقاومة كانوا في انتظار تنفيذ عقوبة الإعدام من قبل النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية. يحاول أحد المحكومين عدم الاعتراف بمكان رفيقه الهارب ويلجأ إلى تضليل المحقق بإخباره أن رفيقه يختبئ في كوخ المقبرة رغم علمه أنه يختبئ في بيت أقاربه، إلا أن هذا الرفيق يغادر أثناءها بيت أقاربه لأنه عرف أن أولئك قد وشوا بمكانه فيهرب للاختباء في كوخ المقبرة، وهناك يعثر الأعداء عليه، يقاومهم لكنهم في النهاية يطلقون النار عليه ويموت ثم يصل النبأ إلى صاحبه في السجن فيجن جنونه، يدهمه شعور فظيع بالندم، ينهار للأرض باكيا بحرقة عليه وعلى نفسه!!
وفي مسرحية للبير كامو بعنوان "سوء تفاهم" هناك إدانة للكذب على إطلاقه، حتى ذاك الذي نسميه كذبا أبيض، أو ذاك الذي نتحرى منه جلب مسرة أكبر أو بهجة أعمق مثلما حدث لبطل المسرحية وهو ابن يعود لأمه وأخته بعد غياب سنوات طوال حاز خلالها ثروة طائلة أراد مفاجأتهما، وقد عرف أنهما تديران نزلا صغيرا فجاء وحل فيه ساكنا مخفيا هويته الحقيقية. ولم يكن يعرف أن أمه وأخته كانتا تقتلان من تكتشفان ثراءه، وهو ما حدث له، فحين عرفتا بثرائه قامتا بقتله وعندما اكتشفتا الحقيقة في الغد انتحرتا!!
هذا الأبيض الذي انقلب حالك السواد وتلك البهجة العارمة المؤجلة التي تهاوت إلى مأساة دامية.. وبشكل عام هذا السير المعاكس للأحداث والمفارقة بين تدبير الأقدار وتدبير البشر، كله ثمرة كذب مصدره النية الحسنة ومع ذلك فقد كانت عاقبته وخيمة، مثلما لم تشفع الدوافع النبيلة للسجين فانتهى كذبه إلى أن صار النبل نفسه بمثابة اليد التي ضغطت على الزناد!!
وحده الأعزب الشقي اللعين هو الذي يمثل النقيض للكرامة والشرف الإنسانيين، أو هو عراب اللؤم والخيانة والخسة والسادية التي أرادت أن تلوث الاستقامة وتغتال الثقة، وسواء كان الأعزب دعيا أفاكا لئيما فيما زعم أو كان صادقا.. فما من خشبة خلاص يمكن لها أن تنتشله من وهدة أرذل أنواع الكذب وأحطه!
ويبقى في المنتهى أن تلك النماذج من الكذب في هذه القصص قد لا تكون هي الأشد في سوء العاقبة بين ألوان الكذب الصارخ الفاقع وأن الناس قد لا تلعب الأدوار ذاتها غير أن البعض مع ذلك قد ينجرف إلى اقتراف أكاذيب مماثلة سواء بفعل الدوافع السابقة ذاتها أو بفعل سواها.. وأيا كان الأمر فسوف يظل سبيل النجاة دائما بأيدينا لمقاومة إغراء الكذب حتى لو بدا لنا الأمر تسلية أو شأنا عابرا، فالأقدار والصدف كثيراً ما تقلب الموازين وتقلب الأفراح أتراحا والسعادة تعاسة!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي