"الأمانة العلمية"
تقرأ في نصوص الكتاب والسنة أن الأمانة فريضة شرعية حملها الإنسان، وفي أمر الله لعباده يأتي قوله سبحانه: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا. وهذا اتصال بين "الأمانة- والحكم" وهناك من صور الحكم "الحكم العلمي" ومن رتب الأمانة "الأمانة العلمية" وهذا متصل بعامة العلوم لأن ثمة اتصالا بين الأمانة والحقوق الآدمية التي حفظتها الشريعة، لكن أخص معاني "الأمانة العلمية" هو ما تعلق "بعلوم الشريعة" التي يجب أن تقرأ أخلاقها مع قراءة حقائقها، فحين يجتمع الفقه لحقائق علوم الشرعية مع التطبيق الأخلاقي فهذا هو الارتقاء بقدر الشريعة عن سقط النفس البشرية.
وتحت قراءة مؤصلة لأخلاق الشريعة فإن الأمانة من أخص مقامات الأخلاق الواجبة ويأتي في فقهها ومعناها أن تصان أحكام الشريعة عن هوى النفس، فإن الله لما ذكر الأمانة واتصال الإنسان بها قال سبحانه: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاً فالإنسان الذي حمل الأمانة فيه قابلية لمادتين تنازعان الأمانة: "الظلم- والجهل".
وهنا من العدل أن ندرك أن هذين "الظلم والجهل" يتصلان بالإنسان قابليةً لهما مع ثبوت قابلية الإنسان "للعدل والعلم"، لكن هذه الإشارة في كتاب الله تحدث الفقيه بقوة المنازع للأمانة، ولهذا ذكر ابن تيمية رحمه الله أن كل خطأ بشري فإنه متولد من مادة الظلم أو الجهل ولا بد.
وفي فقه الإشارة فإن الناظر في الشريعة يجب أن يكون فقيها في أوجه الظلم والجهل لينفك عنها، وإن كان من الجهل الجهل المعرفي بفوات معلومة معينة فإن منه الجهل الأخلاقي، والجهل بقواعد الحكم، والجهل بمقاصد الشريعة إلى غير ذلك، فإن هذه الشريعة التي أكرم الله بها هذه الأمة يجب أن تحفظ بحدود الله التي شرع، إخلاصاً له سبحانه، وأمانةً في حملها، فإنه لا يحملها بحق إلا عدل في دينه وخلقه، وفي أثر يروى، وإن كان لا يثبت رفعه لكن معناه مستحسن في كلام كثير من أهل العلم: (يحمل العلم من كل خلف عدوله).
وفقه الأمانة العلمية يتجاوز نظام النقل والإحالة والتصريح بالأخذ إلى معنى من فقه مقامات الشريعة وتعظيمها والتأدب بها؛ لأنه مقام من الديانة، وقد كان السالفون من الصالحين يقولون: العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته. كما قال الإمام أحمد، فلما سئل عن صلاح النية قال: أن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن المسلمين.
فهذا الإشراق في مقصود حمل الشريعة هو فقه أولئك الكبار. والله الهادي.