الفقراء هم اللون الأبيض
الفقراء في كل مكان من الأرض وفي كل زمان هم أكثر كرما من الأغنياء، وأكثر صدقا في الحب، وثباتا عليه، وكلما زاد الإنسان غنى زاد شكه في كل من حوله، تباعد عن الصدق معهم، لأنه يعتبر كل بادرة حب هي وسيلة لطلب مؤجل! أو هي طمع مستتر فيه، لذا يصعب عليه أن يصدق أن إنسانا يحبه لأنه جدير بالحب.. العطاء أصعب كثيرا من الأخذ عند الأغنياء، وهذا ما يجعلهم أكثر حبا لذواتهم.
في كتاب الله ''كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى''. هذه قاعدة قرآنية تؤكد ـــ أن تغييرا يعرض على النفس البشرية ــــ من خلال أمر خارج عنها وهو ـــ الغنى ـــ الذي يورث القناعة بالاستغناء؛ أي عدم الشعور بالحاجة إلى غيره. أو رؤية نفسه فاعلا فيما آتاه الله من فضله من خلال الغرور العلمي والثقة بالقدرات العقلية الظاهرة لديه ''قال إنما أوتيته على علم عندي''، أو من خلال القدرات المادية الظاهرة وجعلها قوة قائمة بذاتها مستقلة في قوتها وسلطانها: ''فقال لصاحبهِ وهوَ يُحاوِرُهُ أنا أكثرُ منك مالاً وأعَزُّ نَفَراً''.
الثروة تصيب النفس بالخوف على فقدها، وهذا مرض مزمن لا علاج له إلا من رحم، وحين تقترب من ثري، تستشعر مجساته الخوف من فقد شيء ما مستقبلا! لذا يتعالى تعاليا وتكبرا وغرورا، ويجعل منها وسائل طرد اجتماعية لما يعتبره طمعا فيه مستبطن، وطلبا لم يحن وقته ولم يأت زمان عرضه.
الفقراء مختلفون تماما، الفقير ليس له إلا قلبه الذي يفتحه لك دائما، بخلاف الغني الذي يبتليه الله بمرض الجمع الذي لا يشفى منه.. فهو ما إن يصل إلى رقم حتى يعيش الحرمان من الرقم الذي يليه ''منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال''؛ لأن طالب المال لا يتوقف طمعه عند رقم ينتهي إليه أبدا. ولا يملأ عينه إلا التراب!
الفقير أكثر كرما بما لا يمكن تصوره عن الغني، وعبر التاريخ أشد الناس بخلا هم الأكثر ثروة وغنى، وأقل الناس نفعا لك هم الأغنياء، وأكثرهم نفعا لكم هم الفقراء.. الفقير رغم قلة ذات يديه، إلا أنك تجده دائما حين تحتاج إليه، حين تريده أن يكون قريبا منك. وحين تموت تجده قريبا كل القرب من روحك. وفاء وإخلاصا وترحما طيلة ما بقي من عمره. الغني ينساك حيا، وينساك مريضا، ولا يعرفك محتاجا إليه، ويعتبرك حين تموت قطا سقط عليه جدار بالخطأ.. الأسف على الجدار أكثر من القط.. لأنه طيلة عمره يعتبر الآخرين قططا ستسرق السمكة من مائدته حين يغفل عنها.
لا غرابة حين يقول بعض حكماء الهند إن من العسير جدا أن تلامس السماء بيدك.. وأن تجد الوفاء لك في قلب غني، لماذا؟ لأن الغني يحبك طالما هو محتاج إليك، يريدك حين تكون أنت واحدة من السلالم التي يصعد عليها.. والفُرس كانت تعلم أبناءها أن البحر والغني بطبع واحد لا تعرف متى يغرقك ولا متى يلفظك خارجه!
تستقر هذه المفاهيم أكثر في حالات كثيرة أهمها:
أن تكون أنت الطرف الأضعف في العلاقة الإنسانية هذه، فبمقدار فقرك يحتقرك، ويقصيك، وينأى عنك. والتفاوت يظل كبيرا جدا، حيث إنك إن هممت بالصعود إليه أجهدك وأتعبك وكلفك فوق ما تستطيعه وفوق ما تقدر عليه. وهو لن ينزل إليك بكل يقين.. يُروى أن أحد العلماء الكبار رد هدية تاجر غالية جدا وكتب في رسالة ردها: حتى أستطيع رد هديتك هذه بهدية مماثلة يجب أن أسرق.. والله حرم السرقة. ومقدمة الحرام حرام.
والحالة الثانية: أن يكون الغني من تلك الفئة التي يعبر عنها بمستحدث نعمة. أو بالذي لم يكن فكان! أو بالبطن الجائع الذي عرض عليه الشبع.. الذي كان في فقر لازب وأغدق الله عليه، لا يكاد يسلم من خوف الرجوع إلى مكان فيه، فيشدد حرصه على ما يملك ويقبض على ما عنده قبض لئيم فاجر بقلب ميت.
والحالة الثالثة: أن يتقدم الثري في العمر.. حين ذاك يزداد حرصه، يزداد بخله.. يزداد توجسه من الفقد.. ومن الطمع فيه.. وكلما وهن أكثر ظن أن ماله مصدر قوته وسبب التفاف الناس حوله.
الغني بالمطلق يعطي قليلا. ويمن عليك حتى وأنت في قبرك. والفقير يعطيك نصف ما يملك ولا يشعر أنه أعطاك؛ لأن الفقراء يوحدهم الألم، يجمعهم ذل الحاجة، يطهر قلوبهم من الحرص والبخل انعدام الملك.. لم يعتد الجمع فلا يخاف الفوت. ولم يأته المال فيتربص زيادته وعدم نقصه، هو معتاد على أن يشارك ما يملك مع من يحب. بينما الغني لا يحب أحدا إلا المال. لذا لا يشارك معه أحدا. هذا الذي يجعل الفقير هو اللون الأبيض في حياتك وقلبك وقربك، والغني هو لون التراب، والطين الذي إن وضع على شيء شانه وعابه.. والغريب أن الطمع في النفوس الضعيفة تجعلهم يفضلون لون الطين، والتراب على بياض قلوب الفقراء وكرمهم العظيم. وصدق من قال ''لولا الطمع في قلوب الخلق لكان الغني والديك الميت بمنزلة واحدة في قلوب الناس، وما ذل رقاب الرجال بشيء أكثر من الطمع لما في أيدي الناس''.