بين اكتشاف واكتشاف

بين اكتشاف واكتشاف

[email protected]

الأسبوع الماضي حمل خبرين عن اكتشافات نفطية من بلدين مهمين مع الفارق. الأول في شكل تسريبات إعلامية نقلتها صحيفة "نيويورك تايمز" يوم الإثنين الماضي حول وجود مخزونات نفطية في المناطق السنية وسط العراق، والثاني التصريح الرسمي للمهندس علي النعيمي وزير البترول والثروة المعدنية السعودي، حول الاكتشاف الجديد جنوب حقل الغوار الضخم.
الخبر الأول لا يكتسب له صفة رسمية، وهو لا يضيف جديدا في واقع الأمر، لأن البلاد ذات الاحتياطيات النفطية تظل دائما وأبدا تملك خيار وجود احتياطيات محتملة، بينما الثاني خبر مؤكد منقول عن مسؤول رسمي وبتفاصيل ذات محتوى مهني عن اكتشافات محددة في مواقع محددة وبطاقة رقمية محددة.
لكن يبدو لكل منهما رسالة يريد إيصالها. فالرسالة القادمة من العراق ذات بعد سياسي أكثر منه متعلقا بالصناعة النفطية. الصراع الدائر في أرض الرافدين يتعلق في الأساس بإعادة هيكلة للدولة والنظر مجددا في قسمة للثروة والسلطة، وما يحيط بهما تأسيسا لوضع جديد تلعب فيه الثروة النفطية وما ينتج عنها من عائدات مالية دورا مركزيا.
وفي المقابل، فإن الرسالة القادمة من الرياض تعيد تأكيد ما عرفه العالم والسوق النفطية تحديدا من القدرات الضخمة للسعودية في ميدان الصناعة، خاصة لجهة الاحتياطيات والقدرة على تنميتها واستغلالها، مع رفع الطاقة الإنتاجية وتنويع منافذ التسويق للوصول إلى المستهلكين حول العالم، بل رفع القدرات في مجال التكرير. على أن موقع الاكتشاف الجديد يتطلب وقفة كونه جاء جنوب حقل الغوار الضخم، الذي يعتبر أكبر حقل نفطي في العالم، وكان مثار جدل وصل إلى صفحات الصحف والنشرات النفطية المتخصصة، بل وبعض مراكز الأبحاث مثل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، الذي استضاف ندوة نقاش ألقت بالكثير من الأضواء على وضع "الغوار" ومن ورائه الاحتياطيات النفطية السعودية.
النقاش أثاره كتاب ماثيو سيمونز، الذي أشار فيه إلى بعض الملاحظات التي قام بتجميعها إثر الاطلاع على نحو 200 ورقة فنية متخصصة خلص فيها إلى أن "الغوار" يعاني من بعض المتاعب الخاصة باحتياطياته، وبسبب كبر حجمه وكونه واسطة العقد في الصناعة النفطية السعودية، فإن أي متاعب يعاني منها تعني في واقع الأمر أن السعودية تعاني من متاعب، وإذا كانت السعودية، خزان النفط الرئيسي في العالم، تعاني من متاعب، فإن العالم كله يعاني من متاعب، وهو ما يصب في إطار نظرية ذروة النفط، التي لا تزال محط اهتمام ونقاش ومتابعة رغم أن واقع الحال يكذبها، إلى جانب بعض الدراسات مثل تلك الأخيرة التي قامت بها رباطة أبحاث كمبريدج لأبحاث الطاقة وخلصت فيها إلى أن العالم يتجه إلى الدخول في مرحلة من الإنتاج المتصاعد إثر قيامها بمسح تعرض إلى الحقول المخطط لها وتلك التي على طريق التطوير واحدا واحدا.
فترة العامين الماضيين شهدت خفوتا في هذا الاتجاه، الذي لا يزال له مناصروه على أي حال، لكن ما يلفت النظر حقيقة، أن الإعلان السعودي عن اكتشافات جديدة قرب "الغوار" يمثل في واقع الأمر تحركا سياسيا من نوع مختلف. ففي ذروة الجدل حول الاحتياطيات خرج النعيمي يقول إنه يمكن للسعودية العمل على إضافة 100 مليار برميل أخرى إلى احتياطيها الحالي المؤكد البالغ 260 مليارا.
مثل هذا الإعلان يقرن القول بالعمل، ويعيد تأكيد السياسة التي تعمل على هديها السعودية من باب تحملها عبء الدولة العظمى في عالم الصناعة النفطية بكل ما لهذا الدور من تبعات، على رأسها العمل على الحفاظ على طاقة إنتاجية فائضة بين مليون ومليوني برميل، الاستمرار في برامج رفع الطاقة الإنتاجية وبكل ما يعنيه هذا من تكلفة مالية عالية يتم إنفاقها في التحليل النهائي من باب توفير الآليات اللازمة لضمان تحقيق قدر من الاستقرار في السوق، ولضمان المصالح الوطنية للسعودية من واقع الدور المحوري للنفط في بنيانها السياسي والاقتصادي ودورها الإقليمي والدولي. فالقدرة على الحفاظ على ثقل معتبر في الصناعة النفطية يعطي هامشا للمرونة والتحرك في مختلف الجبهات، وهو تصرف مطلوب من باب الاستغلال الرشيد للقدرات المتاحة وتوظيفها من أجل مصلحة البلاد التي لا تتناقض في النهاية مع مصالح الآخرين رغم الاختلاف والتباين في وجهات النظر والانكفاء على أهداف قصيرة النظر أحيانا.
وهذا ما ينتظر العراق، فالحديث عن وجود مخزونات نفطية في أواسطه يمكن أن يعطي دفعة في اتجاه تحقيق قدر من الوفاق الوطني يسمح بالاتجاه إلى إنجاز الاستقرار السياسي ومن ثم تطوير موارد البلاد النفطية لخير بنيها، ولهذا فالتحدي الذي يفرضه وجود مخزونات نفطية وسط العراق يتمثل في القدرة على تخطي الحاجز السياسي وفتح الباب أمام استغلال أكبر للموارد الموجودة أكثر منه إضافة آنية إلى الوضع الراهن.

الأكثر قراءة