القضاة السعوديون ذات واحدة بقراءات مختلفة (الجزء الأول)
القاضي في كل مجتمع إنساني، يمثل ضميره الحي، ووعيه اليقظ، وحكمته الرشيدة التي يسند العدل قامته إليها، فقد ظل القاضي كما كان دائما، لسان العدل، وضميره، وقلبه وبصيرته. والقائم بين الناس بالقسط، والإحسان والخير والصلاح، والرحمة. هذه فئة يُشير إلى أفعالها قول الله ـــ عز وجل: ''... وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ'' وقول الله تعالى: ''قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ''، وتلك البينة هي بصيرة القلب، وبصيرة العلم والوعي، وحضور الله في الجوانح والجوارح، وفي التوقف عند المظالم والحقوق، في الورع عند مزالق الجزاء والعقوبة.
وحيث يقيد المقال نفسه ـــ بالقضاة السعوديين ـــ فهو يعني أنه لن يتناول غيرهم، ولن ينبسط لمناقشة ـــ القضاء ـــ في فعله، وتطبيقاته، ومناقشتها، فيما جانبه الصواب، وفيما غمره التوفيق الغامر، ذاك لأن كل حكم له أسبابه التي استند إليها من أصدره، ولأن لكل موضوع حكمه القضائي الخاص الذي لا يعمم. ولأن الحكم على كل موضوع فرع لتصوره الصحيح المطابق.
إن صفة ''سعة الصدر'' من صفات الطبع لمن يمثل العدل وضميره، وهذا ما يجعل المقال يسمي الأشياء بأسمائها، ويوغل في النقد لما يحسبه قد جانبه الصواب من ''وزارة العدل''. لأن العادل الحصيف الذي يصغي إليك، ثم يستخرج مظلمتك من ثورة غضبك إن غضبت. ''دعها .. إن الحق أنطقها .. ورفع صوتها''. والمقال يتلمس الحكمة، والموعظة الحسنة دون إسفاف ولا تجريح في مناقشة جملة أمور صدرت من وزارة العدل أخيرا، وتناولها الإعلام. وهذه بعضها:
ـــ أحمر أخضر القضايا المنظورة
وقد وجد في هذا النظام البعض أنه فتح مبين للتسريع في النظر، وفي مراقبة سير الدعاوى القضائية، وهذا ما سيأتي عليه النقاش فيما يلي من سطور:
أولا: تجاوز الاختصاص
إن المجلس الأعلى للقضاء الذي يتولى رئاسته وزير العدل هو وحده المعني بشؤون القضاة ومساءلتهم، ومحاكمة الأداء وتطويره، ورفع ما يشوبه من قصور، وضعف. ففي يوم 19/9/1428هـ وبموجب المرسوم الملكي رقم (م/98) الذي كان الهدف الأول منه هو ''تحقيق استقلالية القضاء والقضاة وذلك من خلال إشراف المجلس الأعلى على المحاكم وعلى شؤون القضاة''. وبذا يعتبر أي حديث من وزارة العدل هو من غير ذي صفة كما أنه يسقط ـــ الهيبة والمنزلة ـــ الجليلة التي ينبغي أن تصان وأن تحفظ وألا تمس للقضاة، وهذا فيما يحسبه المقال كان السبب الوحيد خلف تشريع المنع للظهور الإعلامي للقضاة. الذي حرم المجتمع شريحة تمثل الرشد والحكمة والتبصر بحقيقة المجتمع، ومبصرة بقاعه، من خلال خصوماته، ومن خلال جناياته في أساليبها، وأنواعها وعددها. فقد وصفت وزارة العدل في حينها الظهور الإعلامي للقاضي، هو استقالة مقبولة سلفا! بالرغم من عدم وجود حالة الابتذال في الظهور الإعلامي ولا في كثرة الخلطة بالعامة. إلا أنه قرار مضت فيه وزارة العدل حتى كان باتا وممضيا.
إلا أنه نسيت هذه الجلالة والمنزلة وعظيم التقدير للقضاة حين أقدمت على تجاوز الاختصاص لمجلس القضاء الأعلى من جهة، ومن جهة أخرى، بجعل القاضي أمام الرأي العام .. وكأنه لا ينهض بما يجب عليه القيام به لولا الملاحقة الحثيثة التي فرضت وضع نظام ''مندوب المبيعات''على سير الدعاوى ـــ أحمر وأخضر ـــ وهذا مستغرب، وغير مفهوم ففي القضاء ''من لم يكن له واعظ من نفسه، لن تنفعه مواعظ الآخرين''. وإننا وإن لم نقل بالعصمة لأحد من شرائح المجتمع، إلا أنه من غير المرضي عنه تبسيط الواقع، وفرض تطبيقات لا تتلاءم بحال من الأحوال مع واقع القضاء بالحال الذي هو عليه، وطبيعة النظر فيه، وتعدد موضوعاته، وتفاوت درجات الخصوم في الرشد، وتباعد مدارك العقل، وكثير مما سيأتي بيانه.
لو صدر هذا القول من جهة الاختصاص المخولة وحدها دون غيرها بالحديث عن القضاة وشؤونهم لكان أليق، وأدعى للقبول، وأقرب للتقدير. إلا أننا سنعتبر هذا تبرعا من غير ذي صفة يستوجب تنزيله منزلة الرأي العام لا تعبيرا عن جهة اختصاص ولا تمثيلا لها، هذا في الشكل أما في المضمون يأتي:
ثانيا: القياس مع الفارق
إن مما جاء في مسببات ''أحمر القاضي وأخضره'' وهو برنامج يظلل القضايا باللون الأخضر لمدة شهر ثم يتحول إلى أحمر بعد شهرين، وبذا يتعين على القاضي الحكم خلال شهرين بعيدا عن عدد الجلسات!
هذا أمر في غاية الغرابة، أولا في مقدار المدة المفترضة وكأن الخصومات والقضايا قيد النظر ـــ مخالفات مرورية ـــ تنازع طرفاها في تحديد موضوعها الصحيح. ليجعل للقاضي مدة ثمانية أسابيع، ليقول فيها بما استقر في ضميره وما استنبطه بعلمه وأدوات فهمه حكما يرد به المظالم ويقيم به الحقوق! وإن أبسط موضوعات الخصومة وهو الطلاق يستوجب السماع والردود المتوالية، وطلب البينة، ثم التأمل والدراسة. فكيف بما هو أعظم وأخطر من الخصومات والمنازعات. لأن القاضي معني بإصابة الحق، والقيام بين الناس بالعدل. وألا يكون حاطب ليل يجمع الأخضر واليابس لأن الوقت لا يسعه للتمييز والتبصر، وهذا ما يفرضه ذاك القرار الغريب في دلالته ومعناه، ولا تشفع له النية الخيرة في تعجيل النظر في القضايا وعدم التأخير الذي يوجد من البدائل ما لا يُعد ولا يحصى عن نظام مندوب المبيعات في القضايا المنظورة الذي لا يليق بمنزلة القاضي وعظيم شأنه.
وفي المقال القادم ـــ إن شاء الله تعالى ـــ أكمل الحديث عن هذا القرار وغيره مما يتعين الرجوع عنه وتصحيحه.