الاختلاف لا يفسد للود قضية
السؤال الذي يطرح نفسه، هل الاختلاف في الرأي وفي الاستنتاج حقًّا أمر مقبول؟ وما تأثيره في رباط الود بين الأقارب والأحباب والأصدقاء؟ فما أكثر ما نختلف على أمور عادية وأحيانًا جوهرية. فهل من المعقول أن نسمح لأنفسنا بأن تتحكم فينا وفي علاقاتنا الأهواء الشخصية واختلاف الرأي وفوران الأمزجة، التي غالبًا ما يكون سببها خلفية الواحد منا ومدى فهمه وهضمه لموضوع البحث؟ أليس من الأفضل أن نظل متحابين ومتصادقين ومتسامحين، حتى ولو لم نتفق في أمور لا تدني ولا تبعِّد ولا تضر ولا تنفع؟ معظم الأمور المختَلف عليها، إن لم تكن كلها، لا تنقص من مالنا وحلالنا ولا من سمعتنا ولا تزيد، ومع ذلك، فهي غالبًا ما تُعكِّر صفو حياتنا وتمزق عرى صداقاتنا. وتتعاظم الأمور كلما كانت العلاقات الودية بين الأطراف قبل الاختلاف قوية ومتينة. فماذا لو اتفقنا على ألا نسمح للأمور الدنيوية، مهما اختلفنا في الرأي، أن تفرق بين عواطفنا نحو بعضنا وتبعِد أحدنا عن الآخر لمجرد عدم قبول فكرته أو تفسيره لحدث معين؟ فقد قضيت من العمر ثمانية عقود، وأحمد الله على دوام الصحة والعافية، مررت خلالها بالكثير من المواقف الحرجة والمحرجة نتيجة لعدم التوافق في الرأي مع قريب بالدم أو صديق عزيز أو قارئ كريم أو زميل دراسة وزميل عمل كلينا في حاجة للآخر. وأشد ما يؤلمني ويقض مضجعي عندما أكون أنا سبب إثارة الخلاف وإحداث الفجوة بين طرفينا. فقد يدوم انشغال بالي حول الموضوع، دون أي مبالغة، سنوات طويلة حتى يطرأ شيء ما إيجابي يهوِّن علي الأمر. ولعل بعضا من القضايا المعاصرة التي نعيشها اليوم توضح طرفًا من أنواع اختلاف الرأي الذي لا نجد مفرًّا منه، وعلينا قبوله والرضى بما يؤول إليه النقاش والحوار حوله، دونما إصرار فاحش قد يقودنا إلى اتخاذ مواقف شخصية عدائية تجاه بعضنا.
فمثلاً، القضية السورية وتداعياتها وما يحيط بها من تعقيدات وغموض في مستقبلها ومصيرها، أجد نفسي حولها في واد وبعض أصدقاء مقربين وعزيزين عليّ في واد آخر، وبيننا من الاختلاف ما يفوق بُعْدَ المشرقين. ومع ذلك فنحن لا نزال وسنظل ـــ إن شاء الله ــــ أصدقاء وإخوة ولن نسمح لقضية دنيوية عابرة تؤثر في أمزجتنا وتبعد أحدنا عن الآخر. وكنت دائمًا أتمنى لو أن المنافسات الرياضية بأشكالها وأنواعها تنتهي دومُا بالتعادل السلبي أو الإيجابي حتى لا تتأثر النفوس ويطغى الحماس وتنتهي المباريات بغاضب ومسرور. فلو أننا أوجدنا نوعًا من الثقافة الاجتماعية التي تجعل أفراد الفريق الذي لم يسعفه الحظ لكسب المباريات أو السباق يكون أول منْ يهنئ الفريق الفائز بنفوس راضية وقبول بالنتيجة، أليس ذلك أفضل من أن تكون الهزيمة مصدر قلق وإحباط، مع أنه معروف سلفًا أن أي فوز يتحقق سيكون من نصيب أحد الفريقين؟ وأغلب المباريات الرياضية جماعية وليست فردية. أي أن المهزوم هو فريق وليس شخصا بعينه، وهذا مما يخفف على الفرد وطأة الهزيمة. ولا يتطلب ذلك أن نكون مثاليين، وهو أمر قد لا يتوافر دومًا في بني البشر، فالتربية الأساسية السليمة تلعب دورًا كبيرًا ومتميزًا في تهذيب النفوس وقبول الآخر.
ومن المواضيع التي كانت ولا تزال تُشغل بالي وأجد فيها اختلافًا جوهريًّا مع أحِباء وزملاء، ما يطلق عليها ذروة الإنتاج النفطي. فهناك الكثيرون الذين، إما أنهم لا يعتقدون بوجودها على الإطلاق وإما أنهم يستبعدون حدوثها خلال السنوات القليلة المقبلة. وربما أن مصطلح تعريف الذروة غير مُتَّفق عليه، مما قد يزيد من فجوة هوَّة الخلاف. ومع ذلك فالصداقة والألفة بين الإخوة المختلفين تبقى على حالها، إن لم تكن أفضل، أو ذلك ما نتمنى أن يكون. ولعله من باب التذكير أن نشير إلى أن دولاً كثيرة كانت تنتج وتصدر النفط، وأصبحت اليوم من المستوردين بعد انخفاض كميات الإنتاج لديهم إلى مستويات متدنية. وهو ما يعني أن إنتاج حقولهم كان قد بلغ الذروة في وقت ما من مرحلة الإنتاج، قبل أن يتخذ اتجاهًا عكسيًّا نحو الانخفاض السريع.
والموضوع الأخير، وقد يكون الأهم من بين المواضيع السابقة، فهو نظرة كل واحد منا، نحن المهتمين بشؤون مصادر الطاقة، إلى مسألة احتمال الاستغناء عن النفط قبل نضوبه. فهناك آراء مختلفة يتمسك بها كل طرف. ومحدثكم مع المجموعة التي تستبعد إلى أبعد الحدود الاستغناء عن المشتقات النفطية قبل نضوبها أو استحالة إنتاجها اقتصاديًّا. ويرتكز هذا الفكر على حقيقة عدم وجود دليل قوي، وواضح وصريح، حول احتمال إيجاد بديل مناسب يتمتع بالمميزات نفسها التي نجدها في المواد النفطية ومشتقاتها. ولا يجدر بنا أن نحمِّل التقدم العلمي والتكنولوجي ومراكز البحوث أكثر مما تتحمل. النفط نفسه لم يأت عن طريق الاكتشافات والبحوث المخبرية، مع الأخذ في الاعتبار أن المشتقات النفطية ليست فقط مصدرا لتوليد الطاقة، وهو عادة محل التركيز في المناقشات، بل إنه أساس للصناعات البتروكيماوية والمنتجات الاستهلاكية الحديثة التي لا حصر لها، ومصدر لمادة الأسفلت الذي يُستخدَم في تعبيد الشوارع والطرق وساحات المنشآت، وهي متطلبات لا غنى لنا عنها. والخلاف على مستقبل النفط ليس محصورًا في متى ينتهي دوره في حياة البشر، أو متى ينضب مخزونه القابل للإنتاج، بل إن هناك منْ لا يمانع في، أو قد يحبذ، سرعة استنزافه عن طريق رفع كميات الإنتاج إلى مستويات قياسية لسنا في حاجة إليها، خصوصًا في الدول الخليجية. ويعتقدون أن الوقت الحاضر، من حيث مستوى الأسعار، أنسب فرصة "للتخلص!" من المخزون النفطي، قبل أن يتم الاستغناء عنه، وهو أمر لا نتفق لا مع فحواه ولا مع مقاصده. ومع الاختلاف الكبير في الرؤية، فنحن نكن لأصحاب هذا الرأي كل تقدير واحترام. ونعتقد أن لديهم من المبررات والاقتناع ما يقابل اقتناعنا برأينا. وإذًا، فليس من الحكمة أن يدعي أحدنا أنه على صواب وأن غيره على خطأ. والأمر يعود إلى مسألة الإقناع بالتي هي أحسن وبالبرهان. وإذا كان بالإمكان إقناع الطرف المعارض برأيك فذلك من فضل الله. المهم هو أن تبقى العلاقات الطيبة بين الأحبة بعيدة عن التشنجات وعن مرمى الاختلاف. أقول هذا الكلام وأنا لا أبرئ نفسي من الخطأ غير المقصود، وأسأل الله أن يهدينا جميعًا إلى سبيل الخير والصلاح.