مفهوم جديد لأمن الطاقة

[email protected]

لعقود كان مفهوم أمن الطاقة يعني بالنسبة للدول المستهلكة ضمان تدفق النفط من مناطق الإنتاج المضطربة إلى الدول المستهلكة. إلا أن هذا المفهوم يتعرض حاليا لتحول جذري بفعل التغير الهيكلي في السوق النفطية الذي بدأت بموجبه تتضح ملامح أزمة نفطية مقبلة، لا تتعلق باضطرابات تهدد تدفق النفط كما كان سابقا، وإنما بنمو هائل في الطلب لا يتوقع أن تستطيع الدول المنتجة تلبيته. من نتيجته بروز صراع بين الدول المستهلكة على مصادر النفط في العالم سعيا لضمان حصولها على احتياجاتها النفطية مستقبلا، ما يعني تحول مفهوم أمن الطاقة من مجرد كونه ضمان تدفق النفط من دون معوقات إلى مفهوم آخر يعنى بشكل أساسي بضمان توفير احتياجات الدول المستهلكة من النفط في العقود المقبلة.
هذا التحول الهائل في مفهوم أمن الطاقة يفسر كثيرا من الأحداث التي شهدتها منطقة الخليج العربي وخاصة احتلال العراق وتباين المواقف الدولية منه. فمن الواضح أن الولايات المتحدة لم تقم باحتلال العراق بسبب تخوفها من امتلاكه أسلحة دمار شامل، ولا حتى سعيا منها لنشر الحرية والديمقراطية كما ادعت لاحقا بعد ثبات زيف ادعائها السابق، وأن هذا الاحتلال يأتي في سياق سعيها لاستغلال موقعها كقوة عظمى وحيدة في العالم للسيطرة على مصادر الطاقة عالميا، ما يضمن لها تأمين احتياجاتها المستقبلية المتنامية من النفط، ويمكنها من استخدام سلاح النفط لفرض إرادتها على الدول المستهلكة الأخرى. والموقف الأوروبي السلبي من الاحتلال الأمريكي للعراق لم يكن ناتجا عن قناعة أوروبية بعدم شرعية هذا الاحتلال أو يعبر عن موقف أخلاقي منه، وإنما يعود لشك الأوروبيين وتخوفهم من حقيقة أهداف الولايات المتحدة في منطقة يتزايد اعتمادهم عليها كمصدر للنفط، ويأتي في سياق تنافس سيزداد ضراوة مستقبلا على ما يتوافر من موارد نفطية محدودة في العالم.
والحقيقة أنه رغم ادعاء الإدارة الأمريكية بأن استراتيجياتها النفطية تقوم على خطة تستهدف تحقيق الاستغناء عن 75 في المائة من اعتمادها الحالي على نفط منطقة الشرق الأوسط بحلول عام 2025، إلا أن احتلالها العراق يؤكد أن استراتيجياتها النفطية الحقيقية مختلفة تماما، وأنها تتوقع عدم قدرتها على تحقيق نجاح فعلي في جهود إيجاد مصادر بديلة للنفط، وأن اعتمادها على نفط الشرق الأوسط سيتزايد في السنوات المقبلة. ففي حين أن واردات الولايات المتحدة النفطية من منطقة الشرق الأوسط لا تشكل حاليا إلا 20 في المائة من إجمالي وارداتها النفطية، إلا أن النمو الكبير المتوقع في الطلب الأمريكي على النفط وتراجع إنتاجها المحلي يملي تغيرا كبيرا في هذا الوضع مستقبلا، وعلى عكس ما تبشر به هذه الإدارة فسيكون هناك اعتماد متنام لا متناقص على نفط المنطقة. فالجهود المبذولة في الولايات المتحدة لتنويع مصادر الطاقة وتقليل اعتمادها على النفط لا تبدو قادرة حتى الآن على تحقيق نتائجها المرجوة وسيكون تأثيرها محدودا في إجمالي الطلب الأمريكي على النفط.
على سبيل المثال استراتيجية الولايات المتحدة الهادفة لتشجيع إنتاج الإيثانول لاستخدامه بديلا عن البنزين كوقود للسيارات تواجهها عوائق حقيقية تحد من فاعليتها. فرغم الدعم الكبير لإنتاج الإيثانول في الولايات المتحدة الذي ارتفع بموجبه إنتاجها منه في عام 2006 إلى نحو 5.4 مليار جالون، وتستهدف رفعه إلى 35 مليار جالون بحلول عام 2017، فإن هذا الحجم من الإنتاج، حتى في حال الوصول إليه وهذا غير متوقع، سيحقق لها الاستغناء فقط عن 15 في المائة من حاجتها من البنزين في ذلك العام. في حين أن تحقيق هذا المستوى من الإنتاج سيتطلب تخصيص مساحة إضافية لزراعة الذرة تقدر بنحو 129 ألف ميل مربع أو ما يعادل مساحة ولايتي تنسي وأيوا مجتمعتين، ولا يخفى أن هذه إضافة مستحيلة ناهيك عن إشكالاتها الأخرى. فتوجيه معظم إنتاج الذرة لإنتاج الإيثانول سيرفع من تكاليف الأعلاف الحيوانية والزيوت وأسعار اللحوم والمشتقات الحيوانية الأخرى، وتخصيص هذه المساحة الضخمة لزراعة الذرة سيكون في الغالب على حساب منتجات زراعية أخرى، ما يرفع أسعارها بشكل كبير، وهذا ثمن قد لا يكون مبرراً إن كان كل ما سيترتب عليه هو مجرد الاستغناء عن 15 في المائة من احتياجات الولايات المتحدة من وقود السيارات.
إدراك الولايات المتحدة وغيرها من الدول المستهلكة التام لهذه الحقائق جعلها مهتمة بشكل متزايد ليس فقط بضمان تأمين احتياجاتها الحالية من النفط، كما كان سابقا، وإنما أيضا بتأمين احتياجاتها النفطية على المدى الطويل في وقت سيعاني العالم من شح فيه، ما سيدخلها في تنافس محموم لتحقيق هذا الهدف، والصراع الحالي المكشوف بين الولايات المتحدة والصين في القارة الإفريقية هو في حقيقته صراع على مواردها النفطية، ومقدمة لما سيكون عليه التنافس بين الدول المستهلكة مستقبلا في سياق مفهومها الجديد لأمن الطاقة.

* أكاديمي وكاتب اقتصادي

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي