طبقية التفكير الاقتصادي!!!
أعتقد أن العنوان يحتاج إلى تعريف أو تفصيل أكثر لأنه قد يعني شيئا معينا لدى البعض من القراء لا أقصده. وحتى لا ندخل في تفسيرات مختلفة من المهم أن نؤكد على المعنى المقصود هنا على وجه الدقة تلافيا لأي تفاسير مختلفة قد لا تساعد على تحقيق الهدف. طبقية التفكير الاقتصادي أقصد بها هنا الفجوة بين متخذ القرار الاقتصادي وهو العالم ببواطن الأمور وبين المتلقي لهذا القرار بما في ذلك المسؤولون الأقل درجة أو الموظف العادي، وكذلك التعاطي الإعلامي مع هذا القرار والمشاكل الاقتصادية وكيفية حلها. وهنا المسألة ليس فيها اتهام لأحد أو تحديد مسؤول ولكنها تأكيد لواقع وتفسير لحال، هذا رغم معرفتي بأن لدينا ثقافة متأصلة وفيها بعض المنطق أن "ليس كل ما يعرف يقال".
ولتوضيح الفكرة بشكل أكبر سوف أورد ثلاث حالات للتدليل. الحالة الأولى تخص ما حدث في سوق المال منذ الطفرة الأخيرة وحتى تشكيل هيئة السوق المالية وكذلك بعد الهبوط الاضطراري للسوق منذ 25 شباط (فبراير) 2006م وحتى اليوم. وهي حالة صارخة بوضوح في وجه الجميع عن أن هناك فجوة بين متخذ القرار والحالة على أرض الواقع وكذلك التعاطي الإعلامي إن مع الخبر أو مع تحليله. وبصراحة لا نزال في حالة تخبط واضح في النقد وفي تبادل الاتهامات وفي أطروحات المعالجة من قبل من يظن أنهم متخصصون، ومن يقرأ الطرح يعرف سبب الجرح. أسواق المال ليست من اختراعنا وهي نسخ لتجارب دول وأمم سابقة تتجاوز 200 سنة. وبعد 200 سنة من التنوع وتعدد التجارب، يأتي من يكتب لدينا عن ضرورة تعويض الذين خسروا في سوق المال أو يطالب بصندوق يمنع الخسائر أو إلغاء القروض، وهو لا يدري أنه بذلك يلغي مفهوم أسواق المال من الأصل وكل ذلك بحكم الخصوصية السعودية كما يدعون!!! فيما التصريحات الرسمية لا توضح بجلاء أساس المشكلة للمجتمع ويجب أن نكون أكثر صراحة، وليس في المجالس الخاصة فقط. يجب أن يسمع المجتمع ويعرف أخطاءه وأين مكمن المشكلة. كل التصريحات التي سمعناها لا تسمن ولا تغني من جوع، مع الكثير من الحقائق لما حدث والتي لم يتحدث عنها أحد رغم أن الكثيرين يعرفونها ويتحدثون عنها في مجالسهم. أنا مع التعويض إذا كان هناك من ارتكب مخالفة ويتحمل ذلك المخالف تلك التعويضات. وهنا دليل على طبقية التفكير التي أعنيها.
أما الحالة الثانية فهي ارتفاع الأسعار للسلع الأساسية ومنذ أواخر عام 2006م ولا تزال في حالة ارتفاع وسوف تظل كذلك. وهي حالة لا نزال نعيشها، وهذا التضخم فيه كثير من المنطق وكان متوقعا منذ البداية فكل عناصر التضخم موجودة منذ بداية النمو الكبير في النفقات الحكومية ومنذ التراجع الحاد في سعر الدولار المربوط بالعملات الخليجية ومنذ الزيادة الكبيرة في الاستثمار في سوق المال، ومنذ تشكل عدد كبير من العناصر التي كان واضح أنها في النهاية ستؤدي إلى التضخم وقد ذكرت بعضها في مقال سابق مع بداية هذا العام وقلت إن التضخم سوف يكون أبرز تحديات عام 2007م أمام دول الخليج جميعاً. ومع ذلك فأن جميع المؤشرات الرسمية لا تعكس تلك الحقائق هذا أولا، وبالتالي هناك خلل ما في تركيبة المؤشرات وطريقة عملها، وثانيا الواقع البسيط لمن يعيش على خمسة آلاف ريال في الشهر أو أقل وهم كثر يؤكد ذلك بفاتورة الشراء مقارنة بالفترات السابقة. والفجوة لا تزال كبيرة بين رؤية المسؤول بأن ليس لدينا تضخم وبين تضخيم كبير من قبل من يكتبون عن التضخم وبشكل أقرب للأدبيات وليس للكتابة المتخصصة. وبالتالي أصبحنا في حالة تطرف بين المحافظة الزائدة من قبل الجهات الرسمية والمبالغة المنهي عنها من قبل المواطنين وكتاب الأعمدة.
أما الحالة الثلاثة فهي التعاطي مع الأخبار التي ترد عن المملكة من الخارج وبالذات ذات العلاقة بقطاع الأعمال والتجارة. طبعا نحن نعشق الإطراء الخارجي، وهو عشق متناقض مع نفسه، ففي الحالات التي يكون فيها كلام الخارج سواء من دول أو منظمات أو وكالات إيجاباً فإن التغطية تكون بشكل يفوق الوصف وكان آخرها احتلال المملكة ترتيبا متقدم في عمليات الطرح الأولي IPO’s في عام 2006م، أو عندما طبل الكثيرون عندما أعلن أن سوق المال السعودية أتت في المركز الحادي عشر على ما أذكر من ناحية القيمة السوقية في نهاية عام 2005م، وقلت وقتها "والله إنها ما هي ببشارة"، ونجد أن تلك الأخبار الإيجابية قد كتبت في كل الصحف وفي كل القنوات المهتمة بالشأن الاقتصادي السعودي. كما نجد أن المسؤولين يستشهدون بتلك المؤشرات الإيجابية القادمة من الخارج. أما عندما تكون تلك الأخبار سلبية فهي إما أن تهاجم الجهات التي أصدرتها أو يقلل من شأنها أو نجد أن المسؤولين يخرجون علينا بتبريرات غاية في الذكاء حول تلك الأخبار أو التصنيفات. وما تصنيف الجامعات إلا آخرها، رغم أن المعلقين في صحفنا المحلية معظمهم من خريجي تلك الجامعات، وانتظروا تلك المنظمة الأسبانية المغمورة كما وصفت من قبل البعض حتى تحكم على الجامعات المحلية ليطلقوا لأنفسهم العنان في التهكم على تلك الجامعات والبعض منهم لا يزال عضوا في هيئات التدريس في تلك الجامعات. هناك خلل ما يجب أن نصارح أنفسنا به ونتحدث عنه.
أتعرفون سبب عراقة وقوة وقدرة الولايات المتحدة الأمريكية بالتحديد، إنها قدرتها غير المحددة في نقد الذات وتحليل كل صغيرة وكبيرة ومعرفة أسباب الخلل من خلال آليات متعاونة ولكننا نعتقد أنها متصارعة أو ذات أهداف مختلفة. وهي نعم تتصارع ولكن في مصلحة أمريكا فقط. وما النقد الذي يشاهده ويقره الجميع عن العالم حول فشلها في العراق إلا دليل على عظمة هذه الآمة لنفسها وليس للأمم الأخرى أحببنا ذلك أم لم نحبه. حتى إن تجاوزتها في العراق تحديداً هي من يكشفها وهي من يصححها. السر أحبتي يكمن في تناغم الأهداف الشخصية للأفراد والمنظمات والوزارات مع الأهداف الوطنية العليا ومن يعمل بعكس ذلك تسلط عليه الأضواء وينبذ تماماً.