تسرّب الحليب الملوّث .. فساد التجار أم الموزعين؟
موضوع تلوّث بعض من منتجات حليب الأطفال والمنتجات الأخرى أخذ بعدا استراتيجيا بعد أن ثبت وجود كميات منها في السوق المحلية، لقد أكدت لنا هيئة الغذاء والدواء خلوّ السوق من هذه المنتجات المسببة لأمراض خطِرة، ثم جاءت وزارة التجارة لتؤكد وجود كميات من حليب الأطفال المشتبه بتلوثه في الأسواق المحلية، وذلك بعد عدة بلاغات من المواطنين، لقد تسربت فعلاً إلى الأسواق عن طريق الموزعين المعتمدين. وهنا لن أتحدث عن دور هيئة الغذاء والدواء ولا دور وزارة التجارة، فقد عمل الجميع بجهد مناسب وفق الإمكانات المحدودة المتاحة لكل منهما، لكن أين دور التجار والموزعين في هذه القضية الشائكة، أين دور المجتمع نفسه في حماية نفسه، أين المسؤولية الاجتماعية عن كل هذا؟ كيف يرضى تاجر وموزع وصيدلي بقاء هذه المنتجات على الرفوف وهو يشك ''فقط يشك'' فيها ثم لا يتخذ أي إجراء لحماية الناس أو الالتزام بذلك، كأن يأخذ أرقام الاتصال إذا ثبت أن العينة التي لديه ملوثة ولو بعد عدة أيام. لقد قامت هيئة الغذاء والدواء بسحب كميات من الأسواق بعد تأكيد وزارة التجارة، فهل تم سحبها من المنازل والأسر التي حصلت عليها، وهل نعرف مصير أولئك الأطفال الذين تمت تغذيتم بهذا الحليب؟
لقد أصبح من فضول القول الحديث عن حاجة هيئة الغذاء والدواء إلى تطوير مختبراتها، وحاجة وزارة التجارة إلى المزيد من المراقبين مع اتساع رقعة هذه البلاد ودخول الكثير من أبناء الوطن إلى عالم العمل التجاري، لكن المشكلة الأساسية في موضوع المنتجات الملوثة ''في اعتقادي'' كانت في دور الموزعين المعتمدين عند تسرب هذه المنتجات إلى الأسواق كما أشارت إلى ذلك وزارة التجارة، فمعنى موزع معتمد، أي مؤسسة كبرى لها القدرة على الاستيراد والتوزيع، فنحن لا نتحدث عن صيدلية أو بقالة بل عن شركة لها مستودعات ومخازن وتعمل في التجارة الدولية ولها فروع وتدير أعمالا بمئات الملايين إن لم يكن بالمليارات، ومع ذلك لا تهتم هذه الشركات بصحة المواطن ولا خطورة المنتجات التي تجلبها له وتبيعها بأغلى الأثمان. لماذا لم تقم هذه المؤسسات - بنفسها - بسحب هذه الكميات من الأسواق أو إيقاف توزيعها أو إرسال الكميات التي لديها إلى مختبرات عالمية أو الاتصال بالشركة الأم للتأكد من ذلك ثم التصريح للمجتمع عن أي تطورات حدثت. لقد ظهر لنا كمجتمع كأن هذه المنتجات تعمل مع أشباح توزعها ليلا وتضع نفسها في الرفوف، ثم على هيئة الغذاء والدواء ووزارة التجارة اكتشاف أين وزعت ومَن اشتراها. هذا لا معنى له بتاتا، وكان يجب على أي بقالة يوجد لديها هذا المنتج أن تقوم بدورها بلا رقابة من أحد، أو ترفع هذه المنتجات من الرفوف وتتصل بالشركة الموزعة وتتأكد بالاتصالات والخطابات الموثقة أن هذه المنتجات غير ملوثة وأنه يجوز بيعها، فإذا ثبت العكس فلا بد من تحمل كل شخص مسؤولياته. أما أن يتم توزيع هذه المنتجات في الأسواق ثم يباع الموت بكل برود إلى الأطفال الرضع ويتنصل الجميع من مسؤولياتهم بدءا من الصيدلي وحتى هيئة الغذاء الدواء فهذا غير مقبول أبدا.
لقد التزمت الشركة النيوزيلندية بمسؤولياتها، سواء الاجتماعية أو القانونية، وقامت بالإعلان عن جميع هذه المنتجات، فلماذا يتنصل الموزعون المعتمدون لدينا من هذه المسؤوليات وهم يعلمون تماما أن الشركة المصنعة ملتزمة بالتعويض، لماذا يصرّ هؤلاء على توزيع شحنات مشتبه فيها، ولماذا تقوم صيدليات ومحال نثق بها بالسماح بعرض وبيع هذه المنتجات بعد ما قيل عنها الذي قيل، وخاصة أن الجميع بدءا من الموزع وحتى الصيدلي سيضمنون حقوقهم. لماذا هذه الظاهرة منتشرة لدينا بشكل مرعب ومخيف إلى هذا الحد، في شركات الغذاء وفي جميع الصناعات والوكالات الأخرى وما خفي كان أعظم، فمهما قيل عن المنتج ومهما أعلنت الشركة الأم عن طلبات سحب المنتج تجد الوكيل أو المؤسسات التي تبيع المنتج قد تجاهلت ذلك تماما وكأنه يحدث في المريخ، ويستمر البيع حتى تتدخل وزارة التجارة وتجبرهم على الالتزام. ولا أعرف ما الأضرار على التاجر، وهل من الأخلاق التجارية والمسؤولية الاجتماعية وحتى الدينية أن يتم بيع هذه المنتجات والتاجر يعرف حقيقية الخطر الذي يبيعه، بل هذا هو عين الغرر الذي حذر منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يبطل البيع ويجوّز للمشتري رد البضاعة على من باعها.
لماذا يصر التجار السعوديون - دون تعميم - يوما بعد يوم على تأكيد شكّنا في وطنيتهم وعدم حرصهم على هذا المجتمع ونظرتهم السلبية تماما إلى مصير الأسر والأطفال. فالمطاعم ملوثة، والمصانع لا تهتم بمستويات الإشعاع ولا الكميات المناسبة من كل مادة، وحتى عندما تم وضع صور على علب السجائر تم ذلك باستهتار كامل بمعنى المسؤولية الاجتماعية وقيم المجتمع واحترام تفكيره، مستشفيات تبيع الموت، ومدارس تبيع الجهل، مع الأسف ''مع ما في هذا التعميم من خطأ'' لا يمكنك الحصول من أي تاجر سعودي على سلعة مضمونة الاستهلاك أو الاسترداد أو السلامة، وطالما هيئة الدواء لم تتنبه والتجارة منشغلة بسلعة خطيرة أخرى، فالتاجر لديه فرصة سانحة لبيع الموت مغلفا بتجهيل المواطن وصمت الفقهاء والعلماء عن هذا الفساد ولوحة كبيرة تقول إن ''البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل''.