أمانات المدن و«أنسنة» الأحياء السكنية

في أحياء مدينة الجبيل السكنية القريبة من المنطقة الصناعية التابعة للهيئة الملكية في الجبيل وينبع تشعر بأنك إنسان في سكن وفي حي بكل ما تحمله الكلمتان من معانٍ, فأنت تشعر بالسكينة في منزلك والحياة في الحي، حيث فصل الأحياء والمتجاورات بشكل يحقق الخصوصية والتخطيط الحضري الذي يفصل الحركات الثلاث للسيارات ومواقفها والمشاة، وحيث تجتمع كل مجموعة من المتجاورات أو الأحياء بمنطقة خدمات بالقرب من مسجد الحي، وتجتمع المنطقة كلها بأسواق خدمات متكاملة، وحيث التشجير والإنارة والسلامة المرورية إلى غير ذلك من مستلزمات الأحياء التي تأخذ كل الأبعاد للسكن، إضافة إلى كونه مأوى للأسرة.
يدعم جمال هذه الأحياء الإنسانية جمال الكورنيش على ضفاف الخليج العربي، حيث المسطحات الخضراء ومواقع الترفيه والتنزه وخدمات المتنزهين التي توفر للأسر مرافق ترفيهية تخفف من وطأة ضغوط الحياة بشكل عام والحياة الصناعية بشكل خاص.
أحياء الجبيل الصناعية النموذجية التي تراعي إنسانية الإنسان وحاجاته النفسية والاجتماعية والصحية والأمنية لا نجدها في أحياء المناطق الأخرى، حيث نجد العكس تماماً نتيجة المشكلات التي تشكلت بسبب سوء التخطيط حيث الأحياء الشبكية التي تجعل من المساكن أقرب ما تكون لمستودعات بشرية لا تراعي أي بعد إنساني وكأنها أحياء خططت لعمالة يراد لها أن تأوي لهذه المساكن ليلاً لتنطلق للعمل نهاراً دون أي علاقات اجتماعية أو حاجة نفسية أو ترفيهية أو صحية أو أمنية.
فعلى سبيل المثال لو حاولت أنت وأسرتك أو أحد أصدقائك أن تمارس رياضة المشي لأصبحت عرضة لمخاطر الدهس لانعدام أرصفة المشاة واندماج حركتهم بحركة السيارات، وبالتالي عليك أن تنتقل بالسيارة لمواقع محددة للمشي، وهذا غير متاح، ما يجعل رياضة المشي الحاسمة في الحالة الصحية للنساء والرجال غير متاحة وصعبة وتتطلب تحضيرات وتجهيزات وانتقالا من منطقة إلى أخرى.
أما الترفيه فلا يمكن للأطفال الخروج لمواقع ترفيهية قريبة من المساكن يمكن الوصول إليها بأمان، حيث تفتقر الأحياء إلى مثل هذه المواقع ويمكن الوصول لما هو متاح بالسيارة وإذا خرج الأطفال وحدهم تخشى عليهم من العمالة المنتشرة في الأحياء نتيجة تطوير المساكن المستمر لعقود ولا أقول لسنوات، وأما التلوث فيكفيك أن أحياء بدأ تطوير المساكن بها منذ أكثر من 40 سنة تجد مساكنها محاطة بالردميات وما زالت تعاني من مساحات كبيرة غير مستغلة يتم تطويرها بشكل بطيء، ما يجعل السكان يعانون التلوث السمعي والبصري بشكل مستمر حتى ألِف كثير منهم الأصوات المزعجة والمناظر القبيحة.
لا نريد الخوض في المزيد من مظاهر عدم إنسانية أحيائنا ولا نريد أن نخوض ونستهلك الوقت في أسباب ذلك، إنما نريد أن نُعمل العقل والفكر في كيفية معالجة هذه المشكلات وأنسنة الأحياء بما يخفف من آثار مشكلاتها ويحقق الأبعاد الاجتماعية والنفسية والصحية والبيئية والأمنية ولو بدرجات معقولة أفضل مما نعيشه الآن، خصوصاً أن أمانة منطقة الرياض وضعت أسسا لذلك في مدينة الرياض، حيث طورت الميادين والحدائق والأرصفة ومشاريع الترويح وساحات المشي وعززت ذلك بأنشطة ترفيهية وثقافية.
والمأمول من أمانة الرياض وبقية أمانات المناطق والبلديات أن تعقد ورش عمل مع المتخصصين من الجهات المعنية كافة في الأحياء السكنية لإيجاد صيغة تطويرية للأحياء الحالية والقادمة لتصبح أكثر إنسانية، خصوصاً أن أمانات المدن تملك قوة النظام التي من خلالها يمكن التعاون مع ملاك الأراضي والمساكن لإيجاد صيغ تعاونية لمعالجة جفاف الأحياء الحالي الذي جعلنا نشعر بأننا نعيش في مساكن معزولة عن محيطها بشكل غير طبيعي.
لا ننسى قرار أمانة منطقة الرياض بتعويض أصحاب القطع التجارية بدور ونصف إضافي إن تخلّوا عن تطوير محال تجارية واستبدلوها بشقق سكنية، الذي جاء بنتائج أكثر من ممتازة، حيث بات الكثير من الطرق التجارية الداخلية تغص بالشقق السكنية التي أسهمت في حل المشكلة الإسكانية بزيادة حجم المعروض، كما أنها خففت من العدد المهول من المحال التجارية التي لا داعي لها وما ترتب على ذلك من انخفاض في أعداد العمالة الوافدة اللازمة لتشغيل تلك المحال وما يترتب على تلك العمالة من ضغط على الخدمات التحتية والعلوية أيضاً.
أعتقد أنه بات على الأمانات أن تثمّن الكثير من الأراضي أو جزءا منها وتعوض أصحابها بطريقة أو أخرى لتوفير أرصفة مشاة والمزيد من الحدائق ومراكز الترفيه ومراكز الخدمات الاجتماعية في الأحياء، كما بات عليها أن تطلب من أصحاب الأراضي البيضاء إزالة الردميات التي أحاطوا بها أراضيهم لحمايتها ما تسبب في مناظر مؤذية لسكان الأحياء، كما يجب على الأمانات أن تكون أكثر صرامة في تطبيق قوانين نظافة المنطقة عندما يريد أي مواطن تطوير مسكن له، حيث يقوم الكثير حاليا بإتلاف الطريق ورمي المخلفات فيه بشكل مقرف ومدمر لإطارات سيارات أهل الحي، فضلاً عما يتركونه والشركات المقاولة التي تطور خدمات الهاتف والكهرباء والصرف الصحي والإنارة من مخلفات وردميات.
ختاماً أتمنى أن تتبنى وزارة الشؤون البلدية والقروية خطة استراتيجية لـ«أنسنة» الأحياء في مناطق المملكة كافة بالتعاون والتكامل مع الأمانات والبلديات بما يعزز الأوضاع الاجتماعية والنفسية والصحية والبيئية والأمنية والترفيهية ليستمتع الناس بالسكن في أحيائهم .. وخطوة الألف ميل تبدأ بخطوة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي