الشركات الكبرى وتطوير المجتمع
اطلعت على بروشور يتحدث عن المسؤولية الاجتماعية لشركة كبرى مليارية من جهة رأس المال والأصول والصادرات والأرباح، وأصابني الخجل وأنا أطلع عليه، حيث لا يتحدث البروشور عن أي فكر واضح للشركة في أداء مسؤوليتها الاجتماعية تجاه المجتمع والوطن، وبالتالي فالشركة تتحدث من خلال هذا البروشور عن إنجازات مبعثرة هنا وهناك في مجالات متعددة دون استراتيجية واضحة تستند لمفاهيم سليمة أو مرجعيات دولية مثل الـ GRI أو الأيزو المحدد لخدمة المجتمع.
البروشور هزيل جداً من وجهة نظري ويأتي بنتائج سلبية على صورة وسمعة الشركة بدل تعزيزها، حيث يتحدث عن مجموعة كبيرة من الإنجازات التي تصلح لشركة صغيرة أو متوسطة لا تستطيع أن تجعل مهام المسؤولية الاجتماعية عملاً جوهرياً من مهامها، كما هو حال المنشآت الكبرى، نعم إذا رأينا شركة كبرى تتحدث عن دعم حلقة تحفيظ قرآن أو دعم أسرة فقيرة أو بناء بضع غرف لعائلة فقيرة أو دعم نشاط سنوي بمبلغ زهيد، فإننا ندرك بما لا يدع مجالا للشك أنها تقوم بهذه المهمة من باب المعذرة لا القناعة، ذلك أن ما تقوم به يصلح أن يقوم به فرد ميسور من باب التكافل الاجتماعي لا من باب المسؤولية الاجتماعية للمنشآت.
أعتقد أن الكثير من الشركات الكبرى ما زالت تنظر للمسؤولية الاجتماعية نظرة لا تليق بماهيتها وأهميتها في تطوير المجتمع بالتصدي لقضاياه ومعالجة مشاكله، ويعتقد الكثير من القائمين عليها أن دورهم مهما تعاظم لن يكون له الأثر الكبير في تطوير المجتمع والبيئة التي تنشط بها الشركة، وأن الشق أكبر من الراقع، متناسين أن مجموع جهود الشركات الكبرى الذي يتكامل بشكل تلقائي لو نهضت كل شركة بمسؤولياتها الاجتماعية بما يتناسب وأغراضها وحجمها وإمكانياتها سيكون له أكبر الأثر في تطوير المجتمع، ذلك أن مثل هذه الجهود المتضافرة ستدعم جهود الدولة وجهود مؤسسات المجتمع المدني لتحقيق غاياتها في خدمة المجتمع والنهوض به وتطويره بشكل مستمر.
أيضاً هناك الكثير من الشركات التي تخلت عن مسؤولياتها الاجتماعية بشكل كبير بعد أزمة أواخر 2008م المالية، وما ترتب عليها من آثار، حيث ألغت معظم إن لم يكن كل الموازنات المخصصة لخدمة المجتمع، رغم أن الكثير منها لم يتحول إلى الخسارة بل انخفضت أرباحه في زمن الانكماش عنه في زمن الانتعاش، ولا شك أن هذا الخفض أو الإلغاء يعكس مدى إيمان والتزام قيادة هذه الشركات بخدمة المجتمع وأهميته، وكثير من هذه الشركات توجهت لفلسفة "تبرئة الذمة" بالقيام بأعمال وإنجازات تناسب الأفراد أكثر من الشركات الكبرى، لتضعها ضمن تقارير المسؤولية الاجتماعية الصادرة عنها بالتزامن مع مهاجمة مؤسسات المجتمع المدني، التي تعتبر الحاضنة الرئيسة لمعالجة قضايا ومشاكل المجتمع والإدعاء بأنها لا تعي مفهوم المسؤولية الاجتماعية وأنها تفتقر للأنظمة الإدارية والمالية المتقدمة التي تحقق الفاعلية والكفاءة المثلى لاستخدام الدعم الذي تقدمه لها الشركات الكبرى.
شركات أخرى كما علمت تضع موازنات مناسبة للمسؤولية الاجتماعية، إلا أنها تكلف بها موظفين لا خبرة لهم في هذا المجال، بل إن الكثير منهم لا يعي مفهوم المسؤولية الاجتماعية وكيفية التعاطي معه لتحقيق الشركة ما تصبو له من دور كبير في خدمة المجتمع وتطويره كجزء أساسي من مسؤولياتها، ورغم ذلك لا يتم توجيههم أو تدريبهم وتأهيلهم للعمل في هذا المجال، ما يجعل المخرجات لا تتناسب بتاتاً مع حجم المدخلات وحجم الشركة للأسف الشديد، ما يضيع فرصة كبيرة على المجتمع للتطوير من خلال التصدي الإيجابي لقضاياه ومعالجة مشاكله.
ولا شك أن لدينا نماذج للشركات الكبرى التي تنهض بمسؤولياتها تجاه المجتمع بشكل مؤسسي احترافي، يعكس مدى اهتمام إداراتها بالمجتمع والوطن ومدى إيمانها بأن مساهمتها مهمة جداً، خصوصا إذا تصدت لقضايا محورية وقدمت نماذج تحتذى، ولعبت دور المحرك والمحفز لتنظيم الجهود وتحقيق أعلى درجات التنسيق والتكامل للتصدي لقضية اجتماعية بالتحفيز أو المعالجة، ولا شك أن شركات "أرامكو" و"سابك" وشركات الاتصالات الثلاث على سبيل المثال لا الحصر تقدم نماذج يمكن أن تكون مرجعا في مجال خدمة المجتمع لكل شركة تريد أن تلعب هذا الدور بكفاءة عالية.
الشركات الكبرى لها أدوار مهمة جداً في مجال خدمة المجتمع انطلاقا من تنمية أسواقها وتحسين بيئة العمل والإنتاج والتمويل والتصدير وتحسين منظومة القوانين والإجراءات في هذه الأسواق، لتقديم منتجات عالية الجودة متناولة الأسعار، وانطلاقا من دورها في تحسين مستوى موظفيها وتأهيلهم بشكل مستمر خصوصا العمالة الوطنية كمساهمة في معالجة مشكلة البطالة وتوفير فرص وظيفية مجزية للمواطنين، وانطلاقا من مساهمتها في توفير فرص استثمارية تتناسب ومنتجاتها أو خدماتها، حيث يمكن استخدامها كمواد أولية لتطوير أعمال صغيرة أو متوسطة من قبل الشباب الطموح، وأخيراً دورها في التعاطي مع قضايا مجتمعية معينة سواء بالتطوير أو المعالجة وفق استراتيجية ذكية مستمرة تحقق الغايات المرادة في عدد من السنوات بشكل تراكمي.
ختاماً، أتطلع إلى أن تدرك كافة الشركات الكبرى وفي جميع الظروف أهمية دورها، وأن تعمل على تحقيق أعلى درجات الفاعلية والكفاءة بالنهوض بمسؤولياتها الاجتماعية، من خلال مرجعية دولية وفريق عمل احترافي مؤهل ومتمرس، لتحقيق التراكم والتكامل الداعم لتنمية المجتمع بشكل كبير وحاسم في كثير من الأحيان.