حدس وإحساس

حدس وإحساس

[email protected]

رغم أن موجة البرد التي ضربت النصف الشمالي من الكرة الأرضية أسهمت إلى حد كبير في رفع أسعار النفط لتتجاوز 57 دولارا للبرميل في بعض الأيام خلال الأسبوع الماضي، إلا أن هناك عاملا آخر أسهم في ذلك التحول بعد الهبوط المتتالي للأسعار منذ بدية العام، وهو الإحساس أن الدول الأعضاء في منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" تتعامل بجدية مع الخفض الذي أعلنته وبدأت تطبيقه، الأمر الذي انعكس على وضع الإمدادات، خاصة في هذا الوقت من العام.
والكلمة المفتاحية هي "الإحساس"، أو إحساس السوق بما يجري، وبغض النظر عما يمكن أن يجري على أرض الواقع. وفي تاريخ الصناعة النفطية الكثير من التطورات والأحداث التي برزت وترتبت عليها أوضاعا جديدة بسبب ذلك الإحساس، وبالحدس القائم على قراءة شخصية للموقف في وقت من الأوقات.
ومن الأمثلة البارزة الدالة على هذا الوضع كيفية ترجمة السوق لقرار "أوبك" الشهير المتخذ في إندونيسيا في نهاية عام 1997 برفع السقف الإنتاجي إلى 27.5 مليون برميل يوميا، 10 في المائة وقتها، وهو رقم ترجمته السوق فورا على أنه يعني إضافة مليونين ونصف المليون برميل يوميا، في الوقت الذي كانت فيه الأزمة المالية الآسيوية تدمدم في الأفق، الأمر الذي أدى إلى انهيار سعري فعلي حيث وصل سعر البرميل إلى عشرة دولارات في بعض الأحيان، وهو المعدل الذي ظل يراوح مكانه لقرابة العامين حتى نيسان (أبريل) من عام 1999 عندما بدأت خفض الإنتاج وبروز ثلاثي السعودية، فنزويلا، والمكسيك لقيادة السوق ورفع الأسعار مجددا.
النقطة المهمة والجوهرية التي غفل عنها الكل أن قرار الزيادة لم يكن يعني شيئا كبيرا في الواقع، لأن المنظمة كانت تنتج تلك الكمية في حقيقة الأمر، ومن الباب المعهود في تخطي الحصص الإنتاجية المتفق عليها، لكن الإحساس أن هناك كميات كبيرة ستتدفق على السوق أدت إلى ما أدت إليه.
هذا العام مثلا بدأ بإحساس أن فصل الشتاء سيكون معتدلا، وأن "أوبك" لم تنفذ الخفض المتفق عليه في الدوحة، الأمر الذي فتح الباب أمام تراجعات سعرية وصلت في بعض الأحيان إلى ما دون 50 دولارا للبرميل، لكن هطول الثلج والعواصف الباردة مرة أخرى وتتالي الإفادات عن الحجم الكبير في تقليص الإنتاج، خاصة وهناك قرار متخذ بخفض آخر، لأن "أوبك" تحبذ أن يكون سعر 50 دولارا أرضية يستقر عندها السعر ويرتفع إلى ما فوقها، لكن لا ينحدر إلى ما تحتها، أسهم في تحديد وجهة للسوق رغم التقلبات التي يشهدها سعر البرميل، لكن في نطاق يراوح بين 52 و57 دولارا للبرميل.
هذا التعامل بالإحساس يعود بصورة رئيسية إلى غياب المعلومة الموثقة من ناحية، وإلى تضاربها من ناحية أخرى. فالأرقام التي تنشر عن الإمدادات والإنتاج والمخزون، ناهيك عن التوقعات المستقبلية، تتضارب فيما بينها بصورة تجعل من العسير الوثوق بأرقام يمكن البناء عليها بصورة قطعية.
والأمر لا يقتصر على الدول الأعضاء في "أوبك"، وهي في النهاية من منظومة العالم الثالث التي لا يزال أمامها شوط كبير لقطعه في باب تجويد الأداء، وإنما ينسحب كذلك حتى على الدول الصناعية المتقدمة. فإذا أخذنا الولايات المتحدة، وهي أفضل مثال على حرية تدفق المعلومات، لوجد المرء أرقاما تنشرها إدارة معلومات الطاقة، وهي جهة حكومية، وتختلف تلك الأرقام عن تلك التي يتداولها معهد النفط الأمريكي، وهو الذي يمثل مصالح صناعة النفط بمختلف أقسامها، رغم أن تلك الأرقام تتناول منتجات معينة أو فترات زمنية محددة. ووصل الأمر بوزراء المالية في الدول الصناعية السبع إلى تناول موضوع الأرقام هذا في عدة جلسات، وتصدر الوزير البريطاني جوردون براون الحملة.
فهل يرجع ذلك إلى اختلاف المصالح؟ وإذا كان اختلاف المصالح بين مؤسستين أمريكيتين يؤدي إلى مثل هذا الاختلاف، فكيف الأمر بالاختلاف الأعمق بين المنتجين والمستهلكين، بين دول العالم الأول والثالث وغيرهم من الذين تفصلهم خنادق عميقة من اختلاف المصالح والجغرافيا والتاريخ، الآمال والطموحات.
أحد الأسباب أنه من البداية لا توجد أرقام يمكن البناء عليها، خاصة في مجالي الإنتاج والاستهلاك، والأولى تعتبر أسرارا خاصة لدى "أوبك" لصلتها بميادين أخرى مثل الحصص الإنتاجية، ولهذا تنتعش سوق الجهات التي تتخصص في متابعة الأرقام مثل حجم الإنتاج استنادا إلى تتبع حركة الناقلات مثلا، كما تتطاول ظاهرة المراجعات للأرقام التي تقدمها بعض المنظمات مثل الوكالة الدولية للطاقة أو إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أو حتى منظمة أوبك نفسها في تقاريرها الشهرية. لكن يبقى أهم من هذا وذاك كله الاعتماد على الحدس وإحساس السوق باتجاه الريح.

الأكثر قراءة