ضجة في صفوف السعودة
يبدو أن خيار السعودة خيار لم يحسم بعد، لا نظريا ولا عمليا فالسجال الذي ظل مثل كرة البينج بونج بين الفريق المؤيد والفريق المتحفظ جاوز عمره ثلاثة عقود، وفي هذا
مفارقة تكاد تصبح لغزا وأحجية حول كيف نسعود؟ وماذا نسعود؟ ورغم جهود وزارة العمل المخلصة ورغم الندوات والمقالات والبحوث التي كرست توصيات بعد توصيات بضرورة السعودة وأهمية الإسراع فيها، فقد بقيت محنطة في الأدراج وفي المذكرات التي تجول في أروقة الدوائر الحكومية ومراكز البحوث, وكان ينقصها دائما أن يخط تحتها بصريح العبارة "مع وقف التنفيذ".
اللغز الأحجية يرتكز على سؤال مفتعل وبيزنطي: هل نبدأ السعودة من فوق أم من تحت؟ بمعنى هل ينبغي لسياسة السعودة أن تهتم في تطبيقها للسعودة بالوظائف العليا والقيادية وما يليها؟ أم تبدأ في أول السلم خطوة خطوة أي (مت يا حمار لما يجيك الربيع) كما يقول المثل؟
وإذا كانت الأسطورة تتحدث عن أن أهل بيزنطة قد فوجئوا بالعدو يدهمهم في عقر دارهم وهم في هوس النقاش وهوجته في تحديد جنس الملائكة: أذكورا أم إناثا فالأمر بالنسبة لنا لا يتعلق بعدو يتهددنا ويتربص بديارنا ويقف على الأسوار، إنما يتعلق بأن عدونا هو أنانية بعضنا أو قصر نظرهم أو تقصيرهم لهذا النظر، وإلا لما استنفد الحديث عن السعودة كل هذا الوقت، ولما ترتب عليه هجرة كبرى لأموالنا على مدى ثلاثة عقود، ولما وصل بنا الاستخفاف بأهلنا حدا جعل بعضنا لا يخجل من تقزيم مواطنيه بالتقليل من كفاءتهم وقدرتهم على القيام بما يقوم به المستقدمون؟!
إن المؤسف المروع في أن التحايل في التملص من سعودة المواقع العليا والوسطى من الوظائف بلغ من الامتهان لمكانة القوى الوطنية الشابة وغير الشابة حدا جعل البعض لا يراها تليق بغير المهن والحرف والوظائف الدنيا، كالحلاقة والبيع في أسواق الخضار، ولو كانت الحجامة مهنة سائدة لربما أدرجوها. ليس لأن تلك المهن غير شريفة (فالسفاهة في الأشخاص وليست في المهن)، كما يقول لارشيفوكو بل لأن هذه المهن مما لا يشكل ثقلا نوعيا في بناء القوى البشرية الوطنية القادرة على تكوين قوة اقتصادية تؤسس لما هو أقوى فأقوى.
النظرة للقوى السعودية من خلال المهن الصغيرة والبسيطة استراتيجية فاعلة لإدامة أمد الاعتماد على غير السعودي، لأن من شأن بقاء هذا المتعاقد غير السعودي أن يحقق لأصحاب الشركات والمؤسسات وحتى الدوائر الحكومية امتيازات ذاتية وقتية تعمل لصالحهم بالدرجة الأولى في حساب قصر النظر. فغير السعودي يوفر على أصحاب الأعمال الحرج الذي سيواجهونه في المرتبات وفي حرية صرف الموظف من العمل ساعة يشاء وفي فرض إملاءات عليه وخلط الخاص بالرسمي وفي الضغط عليه ليقوم بعمل مجموعة من الأشخاص ليل نهار. فيما سيواجه مع السعودي تعقيدات اجتماعية وحرج رسمي من خلال قوانين العمل لو تم الأخذ بها علاوة على عدم إمكانية استغلاله للبيت والأولاد والمشاوير الخاصة الذي قد يتيحه غير السعودي إلى جانبه.
أصحاب السعودة من تحت يدعمون وجهة نظرهم بمنطق متعالم على أساس أن الجامعات وكليات التقنية والمعاهد في السنوات القادمة سوف توفر خريجين مؤهلين للقيام بما يقوم به هؤلاء غير السعوديين وأنه آنذاك يمكن إحلالهم, وهو كلام قديم، معناه ليست لنا عقول كما يقول أبو العلاء المعري، لأن الخريجين هم الآن مكدسون في بيوت أهلهم في انتظار "الإحلال الذي لم يأت بعد!!", ولأن من سيتخرجون لاحقا سيجدون الحرس القديم نفسه يحتل المصانع والشركات والمؤسسات وبعض الدوائر الحكومية في القيادات العليا وفي الوظائف المتوسطة وما حولها وسوف يقال لهم الكلام ذاته الذي قيل لأجدادهم!!
السعودة ضمير وطن ينبغي ألا تتداركه سنوات اللت والعجن ويغطي عليه عجاج غبار بيزانطية ماذا نسعود وكيف؟ من فوق أم من تحت؟ فالكرامة لا مساومة فيها وهي أن يجد المواطن نفسه في موقع مؤثر يليق به من حيث أحقيته كمواطن ومن حيث أهميته القصوى في أن يكون ميزة تنافسية تدر قيمة مضافة لاقتصاد الوطن وليست أعمالا شكلية لسد الرمق وتدبير قوت يوم وليلة. ولذا فالسعودة ينبغي أن يصار فورا وحالا إلى فرضها خصوصا في المواقع التي يعول عليها اقتصادنا وقطاعاتنا الاستثمارية، بحيث تتحمل الدولة والقطاع الخاص التوظيف والتأهيل واختزال الوقت لتسليح السعودي "بسحر المعرفة" الذي ما زال يعمي به غير السعودي عيون أصحاب الأعمال في بلادنا.. وهو سحر لا يستحيل إتقانه فنيا وعلميا وأداء وإخلاصا والتزاما حينما يتم شطب هذه النظرة الدونية والإصرار على إدانة قوانا العاملة الوطنية بما ليس فيهم، خصوصا أن إخوانهم وأخواتهم ممن يملأون مواقعهم في عدد من القطاعات العملية والحيوية يحصدون الثناء والإشادة ليس من شعبهم فحسب وإنما من العالم المتقدم أيضا.. فهل نحن من "علعلاتنا" منتهون؟!