جامعاتنا تبيع الوهم للناس
تعددت برامج مؤسسات التعليم العالي وتباينت خططها وتنوعت مؤهلاتها وكأن رسالة التعليم العالي في بلادنا تتمثل في العبارة التالية: ''الكل يجب أن يحصل على مؤهل'' ولا يهم من أين؟ أو كيف؟ وما مستوى الجودة؟ فالتعليم العالي متوافر للجميع، مؤهلا كان أو غير مؤهل، قادرا أو غير قادر، راغبا في التعليم أو محجما عنه، ما زال يافعا أم فاته قطار التعليم، ويمكن أن يحصل عليه من الداخل أو من الخارج، من مؤسسة تعليمية معترف بها أو غير معترف بها، المهم كل مواطن بلا استثناء يمكن أن يحصل على مؤهل جامعي فما فوق.
فها هي الجامعات انتشرت في كل بقعة وتعددت برامجها على المستويات كافة، حتى إن الكثير من جامعاتنا لا تستطيع أن تتحرك خطوة إلى الأمام لضخامة ما فيها من معاهد وكليات وعمادات مساندة وبرامج دراسات عليا ومراكز – لا تدري ما وظيفتها. تراها تقبل أي طالب تخرج في الثانوية العامة مهما كانت إمكاناته واستعداده ورغبته، بل تتفاخر بذلك في وسائل الإعلام. ومن فاته قطار التعليم العالي ترى الجامعات تعوضه عن طريق مصادر عدة، منها برنامج ''التجسير'' الذي يعني احتساب ما قد حصل عليه الطالب من تعليم خلال سني حياته ثم انقطع لأسباب وأراد أن يواصل مشوار تعليمه العالي. وهناك خدمة ''التعليم عن بُعد'' فمن كانت ظروفه الشخصية غير مواتية ولا يستطيع الانضباط في قاعات الدرس يكتفي بإرسال ما لديه من مادة علمية إلى موقع إلكتروني ثم يتخرج بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى. ومن كانت ظروفه تسمح له بأن يجوب أقطار العالم وأراد أن يحصل على مؤهل من خارج البلاد فله ذلك وعليه أن يختار أي نقطة على هذا الكوكب ويشد الرحال إليها وينتظم في أي مؤسسة علمية معترف بها أو غير معترف بها ويبقى هناك ما شاء له ويعود بشيء من العلم أو من دون علم، المهم أن يحصل على ورقة تثبت أنه تخطى برنامجا أكاديميا في شرق العالم أو غربه.
هذا في مرحلة البكالوريوس، أما الدراسات العليا فحدّث ولا حرج. فها هي جامعاتنا تفصل برامج الدراسات العليا من دون إمكانات ومن دون أساتذة ومن دون بنية تحتية مناسبة، المهم أن عليها أنها تعد برامج للدراسات العليا لكل من يبحث عنها وبأسرع وقت يلائم السواد الأعظم من الناس. وإنك تصاب بالدهشة عندما ترى كلية هزيلة أثبت عجزها وضعفها في تقديم التعليم الجامعي لمرحلة البكالوريوس تصمم برامج للدراسات العليا بين عشية وضحاها. ففي الفصل الأول يصمم البرنامج ''يُسلق'' من مجموعة الأساتذة -يرون أنفسهم أكفاء- وفي الفصل الذي يليه تبدأ الدراسة في سابقة لم تعهدها مؤسسات التعليم العالي في العالم بأسره. فمن الممكن جدا أن تحصل على درجة الماجستير في إدارة أعمال وإن كنت تحمل البكالوريوس في اللغة العربية بتقدير مقبول، ومن الممكن جدا أن تحصل على الماجستير في الموارد البشرية وإن كنت تحمل بكالوريوس العلوم العسكرية.
تُرى هل ما يحدث للتعليم العالي في بلادنا توجه صحي أو بالأحرى هل نحن في الاتجاه الصحيح؟ هل من المنطق أن الجميع وبلا استثناء لهم الحق في الحصول على مؤهل عال؟ والسؤال الآخر لماذا يحدث هذا؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات ومن مصلحة مَن؟ هناك نظرية اقتصادية تقول: إن زيادة طباعة العملة تقل قيمتها الشرائية، فعندما تقوم بعض الدول بزيادة طباعة العملة من دون رصيد تقل قيمتها مع الوقت وقد تفقد بالفعل قيمتها وتصبح مجرد أوراق ترمى في سلة المهملات، وهذا بالفعل ما يحدث للتعليم العالي في بلادنا عبارة عن توزيع أوراق تسمى شهادات لكل من يرغب فيها سواء أكان قادرا أو غير قادر، راغبا أو غير راغب، ولهذا ستفقد هذه الشهادات قيمتها مع الوقت إذا كانت خاوية من المحتوى ومشاعة للجميع.
وأنا لست ضد التعليم، فكثير من الدول لم يقفز في سلم التنمية ويحقق الرفاهية الاقتصادية إلا بالعلم والتعليم، لكن الذي يحدث في بلادنا ليس تعليما ولا يمكن أن يكون البتة نهضة تعليمية، بل عبارة عن توزيع الوهم للناس وإرواء ظمئهم في تقدير ذاتهم عن طريق توزيع أوراق تسمى شهادات لكل من يرغب وتحت مظلة مؤسسة أكاديمية رسمية. عندما أرى آليات جامعاتنا في توزيع الشهادات وأقارن ذلك بما يحدث في دول العالم أصاب بالدهشة. فتتردد الكثير من الجامعات -التي تحترم ذاتها- في دول العالم في تصميم برنامج للماجستير ويبقى الموضوع في دراسة لسنوات عدة ثم يختبر بعدة طرق ثم يوفر له البنية التحتية من أساتذة ومعامل ومراكز أبحاث حقيقية ومواقع بحثية وقاعات مهيأة ثم تراقبه العيون فهم يتوقعون إخفاقه أكثر من نجاحه ثم يقيم في نهاية الفترة من قبل الطلاب والأساتذة والجهات ذات العلاقة ومن الممكن جدا أن يوقف إذا لم يحقق أهدافه. أما ما يحدث في جامعاتنا فيصيبك بانفصام في الشخصية فيعهد بالبرنامج إلى أستاذ متعاقد أتى إلينا من أدغال إفريقيا أظنه كان يعمل في مركز شرطة في بلاده فلم يمارس العمل الأكاديمي قط إلا في جامعاتنا يعهد إليه بتصميم برنامج للماجستير ولا يمنع أن يعقبه ببرنامج للدكتوراه ثم يعرض على مجلس القسم في أول جلساته وما إن ينتهي الفصل الأول حتى يُقر من وزارة التعليم العالي وتبدأ الدراسة في الفصل الثاني مباشرة ولا يمنع من قبول العشرات وتعدد الشعب ثلاث للبنين وأخرى للبنات وعندها تسأل عن هذه الزوبعة التي تدور حولك يأتيك الخبر أنه برنامج ماجستير إدارة الأعمال، فكليتنا أصبحت مؤهلة للدراسات العليا، أو بالمعنى الصحيح أصبحت قادرة على بيع الوهم للناس.